بقلم: د. أحمد عبد الخالق
حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا يليقان بمقام أمير الأنبياء وسيد المربين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هديه إلى يوم الدين، وبعد..
فإن تأملاتنا في هذه الحلقة سوف تكون حول بعض الآداب والتوجيهات التربوية، التي اشتملت عليها سورة الحجرات، والتي تناولت قضايا اجتماعية مهمة يرى الله تعالى أن أمتنا في حاجة ماسة إليها في كل عصر ومصر.
وإذا كانت السورة تربينا وتعلمنا الأدب عندما يتعامل بعضنا مع بعض، فإنه لمن الأَوْلى أن نتأدَّب مع الخالق الرازق، ثم مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حيًّا وميتًا؛ وذلك عندما نتعامل مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا فإن السورة قد بدأت بالأدب مع الله تعالى، فقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات: 1): يا أيها الذين آمنوا لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحًا؛ لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم، ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمرٍ لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهو أدب نفسي مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله، وراجع إليها، هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم، وكل ذلك في آية واحدة قصيرة تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصلية الكبيرة.
وكذلك تأدَّب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم; فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله، وما عاد واحدٌ منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدليَ به، وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول عليه الصلاة والسلام.
والأدب الثاني: هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب، وتوقيرهم له في قلوبهم توقيرًا ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب، ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)﴾ (الحجرات).
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم لا يزعجونه حتى يخرج إليهم، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.يُحكى عن أبي عبيد العالم الزاهد الراوية الثقة أنه قال: "ما دققت بابًا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه".
والأدب الثالث، وهو درس تربوي: وفيه توجيه المسلمين للتثبت من خبر الفاسق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنْ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)﴾ (الحجرات).
فهذا النداء يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء، وكيف يتصرفون بها، ويقرِّر ضرورة التثبُّت من مصدرها ويخصص الفاسق؛ لأنه مظنة الكذب، وحتى لا يشيع الشك بين المسلمين في كل ما ينقله أفرادهم من أنباء فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتهم؛ فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدَّقةً مأخوذًا بها.
أما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره، وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطًا بين الأخذ والرفض؛ لما يصل إليها من أنباء، ولا تعجل الجماعة في تصرُّف بناءً على خبر فاسق، فتصيب قومًا بظلمٍ عن جهالة وتسرع، فتندم على ارتكابها ما يغضب الله، ويجانب الحق والعدل في اندفاع.
فكم من مشكلات تقع! وكم من جرائم ترتكب!وكم من تقاطع وتدابر بين المسلمين بسبب عدم التثبت! ولو أن المسلمين تأدَّبوا بهذا الأدب الإلهي لصلحت دنياهم وأخراهم؛ حيث إن عدم التثبت من الأخبار يتبعه محظورات أخرى لا بد من الوقوع فيها، كسوء الظن والتجسس والغيبة، إلى غير ذلك من الآثام والمنكرات التي تقع، والتي تترتب على عدم التثبت.
وعلى كل فمدلول الآية عام، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق، أما الصالح فيؤخذ بخبره؛ لأن هذا هو الأصل في المؤمنين، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصالح جزءٌ من منهج التثبت؛ لأنه أحد مصادره.
أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين المسلمين، ومعطَّل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة، والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداءً، وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار.
التوجيه الرابع: الإصلاح بين المؤمنين، والتذكير بأخوتهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾ (الحجرات).
وهذه الآيات تمثِّل قاعدة عامة محكمة لصيانة المجتمع المسلم من التفكك والتفرق، ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح، والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.
وفي هذه الآيات يكلَّف الذين آمنوا- من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعًا- أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين؛ فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق، ومثله أن تبغيا معًا برفض الصلح، أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها؛ فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله.
وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدى إلى الخصام والقتال، فإذا تم قبول البغاة لحكم الله قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعةً لله وطلبًا لرضاه ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون، والوحدة هي الأصل بين المسلمين، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء، الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة، وهو إجراء صارم وحازم كذلك.
التوجيه الخامس: تحريم السخرية واللمز والتنابز، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات: 11).
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس، وهي من كرامة المجموع ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس؛ لأن الجماعة كلها وحدة؛ كرامتها واحدة.
والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وينهاهم أن يسخر قوم بقوم، أي رجال برجال؛ فلعلهم خيرٌ منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء، فلعلهن خير منهن في ميزان الله.
وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية التي يوزن بها الناس؛ فهناك قيم أخرى قد تكون خافية عليهم يعلمها الله، ويزن بها العباد.
وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير، والرجل القوي من الرجل الضعيف، والرجل السوي من الرجل المئوف، وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم، وذو العصبية من اليتيم، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، والغنية من الفقيرة، ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس؛ فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين!
ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإيحاء، بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية، ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها؛ فقد لمزها: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾، واللمز العيب، ولكنَّ للفظة جرسًا وظلاًّ; فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية!
ومن السخرية واللمز، التنابز بالألقاب، التي يكرهها أصحابها، ويحسون فيها سخرية وعيبا. ومن حق المؤمن على المؤمن، ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به. ومن أدب المؤمن، ألا يؤذي أخاه بمثل هذا. وقد غير رسول الله r أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها، أحس فيها بحسه المرهف، وقلبه الكريم، بما يزري بأصحابها، أو يصفهم بوصف ذميم.
التوجيه السادس: تحريم سوء الظن والغيبة والتجسس، إن الله تعالى ينادي المؤمنين بهذا النداء الحبيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن؛ فلا يتركوا نفوسهم نهبًا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك، وتعلل هذا الأمر: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ (الحجرات: من الآية 12)، وما دام النهي منصبًّا على أكثر الظن، والقاعدة أن بعض الظن إثم؛ فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيئ أصلاً؛ لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثمًا!
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
وهذه الآية إنما تقيم سياجًا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب مؤثر عجيب.
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب، بل إن هذا النص ليقيم مبدأً في التعامل، وسياجًا حول حقوق الناس، الذين يعيشون في مجتمعه النظيف، فلا يؤخذون بظنة، ولا يحاكمون بريبة، ولا يصبح الظن أساسًا لمحاكمتهم. بل لا يصح أن يكون أساسًا للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ظننت فلا تحقق"، ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء؛ مصونة حقوقهم، وحرياتهم واعتبارهم، حتى يتبيَّن بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه، ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم.
ثم يقول: ﴿وَلا تَجَسَّسُوا﴾، فالتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن، وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات، والاطلاع على السوءات، والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوءاتهم، وتمشِّيًا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب.
ولكن الأمر أبعد من هذا أثرًا؛ فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية.
إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال.
﴿وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ وفي هذه الآية يعرض الله تعالى مشهدًا تتأذى له أشد النفوس كثافةً، وأقل الأرواح حساسيةً: مشهد الأخ يأكل لحم أخيه ميتًا! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!
ثم يعقِّب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئًا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾.
ثم يختم المولى سبحانه وتعالى هذه الآيات بالنداء على الناس، بعد أن كان النداء على المؤمنين لقول للناس جميعًا على اختلاف معتقداتهم وأجناسهم وألوانهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
إن الله تعالى لم يخلق الخلق ليتناحروا ويتقاتلوا، ولكنه خلقهم1 ليتعارفوا ويتآلفوا فيما بينهم، ويتعاونوا على إعمار هذه الأرض، والتفاضل بينهم لن يكون إلا على أساس التقوى والعمل الصالح الذي ينتفع به بنو الإنسان।
إنها لمحات سريعة، لا ينقصها إلا التطبيق، حتى نكون مجتمعًا مثاليًّا نجمع بين طهارة الخلق ونظافة القلب واللسان، وحتى نكون مجتمعًا متحابًّا يسوده العدل والإخاء.
نسأل الله تعالى أن يحقق لنا ذلك.. إنه نعم المولى ونعم النصير.
حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا يليقان بمقام أمير الأنبياء وسيد المربين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هديه إلى يوم الدين، وبعد..
فإن تأملاتنا في هذه الحلقة سوف تكون حول بعض الآداب والتوجيهات التربوية، التي اشتملت عليها سورة الحجرات، والتي تناولت قضايا اجتماعية مهمة يرى الله تعالى أن أمتنا في حاجة ماسة إليها في كل عصر ومصر.
وإذا كانت السورة تربينا وتعلمنا الأدب عندما يتعامل بعضنا مع بعض، فإنه لمن الأَوْلى أن نتأدَّب مع الخالق الرازق، ثم مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حيًّا وميتًا؛ وذلك عندما نتعامل مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا فإن السورة قد بدأت بالأدب مع الله تعالى، فقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات: 1): يا أيها الذين آمنوا لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحًا؛ لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم، ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمرٍ لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهو أدب نفسي مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله، وراجع إليها، هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم، وكل ذلك في آية واحدة قصيرة تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصلية الكبيرة.
وكذلك تأدَّب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم; فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله، وما عاد واحدٌ منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدليَ به، وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول عليه الصلاة والسلام.
والأدب الثاني: هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب، وتوقيرهم له في قلوبهم توقيرًا ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب، ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)﴾ (الحجرات).
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم لا يزعجونه حتى يخرج إليهم، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.يُحكى عن أبي عبيد العالم الزاهد الراوية الثقة أنه قال: "ما دققت بابًا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه".
والأدب الثالث، وهو درس تربوي: وفيه توجيه المسلمين للتثبت من خبر الفاسق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنْ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)﴾ (الحجرات).
فهذا النداء يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء، وكيف يتصرفون بها، ويقرِّر ضرورة التثبُّت من مصدرها ويخصص الفاسق؛ لأنه مظنة الكذب، وحتى لا يشيع الشك بين المسلمين في كل ما ينقله أفرادهم من أنباء فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتهم؛ فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدَّقةً مأخوذًا بها.
أما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره، وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطًا بين الأخذ والرفض؛ لما يصل إليها من أنباء، ولا تعجل الجماعة في تصرُّف بناءً على خبر فاسق، فتصيب قومًا بظلمٍ عن جهالة وتسرع، فتندم على ارتكابها ما يغضب الله، ويجانب الحق والعدل في اندفاع.
فكم من مشكلات تقع! وكم من جرائم ترتكب!وكم من تقاطع وتدابر بين المسلمين بسبب عدم التثبت! ولو أن المسلمين تأدَّبوا بهذا الأدب الإلهي لصلحت دنياهم وأخراهم؛ حيث إن عدم التثبت من الأخبار يتبعه محظورات أخرى لا بد من الوقوع فيها، كسوء الظن والتجسس والغيبة، إلى غير ذلك من الآثام والمنكرات التي تقع، والتي تترتب على عدم التثبت.
وعلى كل فمدلول الآية عام، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق، أما الصالح فيؤخذ بخبره؛ لأن هذا هو الأصل في المؤمنين، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصالح جزءٌ من منهج التثبت؛ لأنه أحد مصادره.
أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين المسلمين، ومعطَّل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة، والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداءً، وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار.
التوجيه الرابع: الإصلاح بين المؤمنين، والتذكير بأخوتهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾ (الحجرات).
وهذه الآيات تمثِّل قاعدة عامة محكمة لصيانة المجتمع المسلم من التفكك والتفرق، ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح، والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.
وفي هذه الآيات يكلَّف الذين آمنوا- من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعًا- أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين؛ فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق، ومثله أن تبغيا معًا برفض الصلح، أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها؛ فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله.
وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدى إلى الخصام والقتال، فإذا تم قبول البغاة لحكم الله قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعةً لله وطلبًا لرضاه ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون، والوحدة هي الأصل بين المسلمين، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء، الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة، وهو إجراء صارم وحازم كذلك.
التوجيه الخامس: تحريم السخرية واللمز والتنابز، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات: 11).
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس، وهي من كرامة المجموع ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس؛ لأن الجماعة كلها وحدة؛ كرامتها واحدة.
والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وينهاهم أن يسخر قوم بقوم، أي رجال برجال؛ فلعلهم خيرٌ منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء، فلعلهن خير منهن في ميزان الله.
وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية التي يوزن بها الناس؛ فهناك قيم أخرى قد تكون خافية عليهم يعلمها الله، ويزن بها العباد.
وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير، والرجل القوي من الرجل الضعيف، والرجل السوي من الرجل المئوف، وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم، وذو العصبية من اليتيم، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، والغنية من الفقيرة، ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس؛ فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين!
ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإيحاء، بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية، ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها؛ فقد لمزها: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾، واللمز العيب، ولكنَّ للفظة جرسًا وظلاًّ; فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية!
ومن السخرية واللمز، التنابز بالألقاب، التي يكرهها أصحابها، ويحسون فيها سخرية وعيبا. ومن حق المؤمن على المؤمن، ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به. ومن أدب المؤمن، ألا يؤذي أخاه بمثل هذا. وقد غير رسول الله r أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها، أحس فيها بحسه المرهف، وقلبه الكريم، بما يزري بأصحابها، أو يصفهم بوصف ذميم.
التوجيه السادس: تحريم سوء الظن والغيبة والتجسس، إن الله تعالى ينادي المؤمنين بهذا النداء الحبيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن؛ فلا يتركوا نفوسهم نهبًا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك، وتعلل هذا الأمر: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ (الحجرات: من الآية 12)، وما دام النهي منصبًّا على أكثر الظن، والقاعدة أن بعض الظن إثم؛ فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيئ أصلاً؛ لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثمًا!
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
وهذه الآية إنما تقيم سياجًا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب مؤثر عجيب.
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب، بل إن هذا النص ليقيم مبدأً في التعامل، وسياجًا حول حقوق الناس، الذين يعيشون في مجتمعه النظيف، فلا يؤخذون بظنة، ولا يحاكمون بريبة، ولا يصبح الظن أساسًا لمحاكمتهم. بل لا يصح أن يكون أساسًا للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ظننت فلا تحقق"، ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء؛ مصونة حقوقهم، وحرياتهم واعتبارهم، حتى يتبيَّن بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه، ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم.
ثم يقول: ﴿وَلا تَجَسَّسُوا﴾، فالتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن، وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات، والاطلاع على السوءات، والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوءاتهم، وتمشِّيًا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب.
ولكن الأمر أبعد من هذا أثرًا؛ فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية.
إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال.
﴿وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ وفي هذه الآية يعرض الله تعالى مشهدًا تتأذى له أشد النفوس كثافةً، وأقل الأرواح حساسيةً: مشهد الأخ يأكل لحم أخيه ميتًا! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!
ثم يعقِّب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئًا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾.
ثم يختم المولى سبحانه وتعالى هذه الآيات بالنداء على الناس، بعد أن كان النداء على المؤمنين لقول للناس جميعًا على اختلاف معتقداتهم وأجناسهم وألوانهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
إن الله تعالى لم يخلق الخلق ليتناحروا ويتقاتلوا، ولكنه خلقهم1 ليتعارفوا ويتآلفوا فيما بينهم، ويتعاونوا على إعمار هذه الأرض، والتفاضل بينهم لن يكون إلا على أساس التقوى والعمل الصالح الذي ينتفع به بنو الإنسان।
إنها لمحات سريعة، لا ينقصها إلا التطبيق، حتى نكون مجتمعًا مثاليًّا نجمع بين طهارة الخلق ونظافة القلب واللسان، وحتى نكون مجتمعًا متحابًّا يسوده العدل والإخاء.
نسأل الله تعالى أن يحقق لنا ذلك.. إنه نعم المولى ونعم النصير.
هناك تعليق واحد:
نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى
إرسال تعليق