الاثنين، 28 أكتوبر 2013

لعله خير


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المجاهدين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين، وأسأل الله أن يُجري الحق على قلوبنا وألسنتنا جميعًا، وبعد....
أيها الأحباب، لهذا العنوان دلالة تربوية هامة، فالمسلم ينبغي أن ينظر إلى أقدار الله سبحانه وتعالى التي يجريها في كونه على أنها خير، يفهمها المسلم حينا ويعجز عن فهمها أحيانًا حتى تتضح له فيما بعد.
فمن شرح الله صدره بالإيمان فهو مطمئن لقدر الله تعالى، فهو البر الرحيم، وفي ذلك يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القدر).
ومن الجميل ما قاله ابن عطاء السكندري: (من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره)،
فإن الله تعالى قال:
 (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم)
 (يوسف: 100).
ولقد شكا أحد الصالحين يومًا إلى شيخه قائلاً: أجد في نفسي همومًا وأحزانًا، فقال شيخه:
أحوال العبد أربعة لا خامس لها: 1- النعمة، 2- البلية، 3- الطاعة، 4- المعصية.
- فإن كنت في نعمة فمقتضى الحق سبحانه وتعالى منك الشكر.
- وإن كنت في البلية فمقتضى الحق منك الصبر.
- وإن كنت في طاعة فمقتضى الحق منك شهود المنة والفضل.
- وإن كنت في المعصية فمقتضى الحق منك الاستغفار.
أخي الحبيب.. 
هل مر عليك أو سيمر عليك حال مغاير لهذه الأحوال الأربعة؟
كلا والله، فلماذا الهم والقلق ما دامت الأمور كلها من الله، وبتقدير الله، وما دامت الأمور كلها من الله وبتقدير الله، فالله سبحانه وتعالى قد افترض عليك في كل حال من الأحوال لونًا من ألوان الطاعة والعبادة.
 يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يُروى عنه:
 (عجبًا لأمر المؤمن، وإن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له).
ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قال: (لو كان الصبر والشكر بعيرين لا أبالي على أيهما ركبت)، وذلك لأن كل مطية منهما موصلة إلى رضوان الله تعالى
د. محمد طه وهدان
مسئول قسم التربية في جماعة الإخوان المسلمين

الخميس، 18 أبريل 2013

قراءة في سورة غافر

سورة غافر : الدعوة إلى الإيمان والمغفرة .


تبدأ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن وأنه منزل من الله ذي الصفات الحسنى :

العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول والإنعام على العباد بشتى النعم .

لا إله إلا هو إليه إليه المصير ، فمرجع العباد كلهم إليه ؛ فينبغي أن يحذروه ؛ لأنه شديد العقاب ، لمن عاند وكفر .

والتهديد الوارد في السورة بذكر المصير الأليم للكافرين الغابرين السابقين ، المقصود منه ردع المعاندين وردهم إلى ساحة الإيمان .

إلا أنهم حولوا الدعوة إلى الإيمان والمغفرة إلى معركة حامية بين الحق والباطل ...بين الهدى والضلال .

وما قامت معركة بين الحق والباطل إلا وانتصر فيها الحق . وما قامت معركة بين الحق والباطل إلا وزهق فيها الباطل .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ{78} غافر .

وتختم السورة بمصارع المكذبين ، وهم في ذلة وهوان ، وصغار وخسران .

فهذا الكتاب منزل من الله العليم الذي يعلم مصالح العباد وما ينفعهم ، يدعو العباد ليغفر لهم ويتوب عليهم ، وهذا ما يريده الله لهم ؛ ولهذا كان اسم السورة ( غافر ).والملائكة المقربون يعلمون هذه الحقيقة ؛ فتراهم يتقربون إلى الله بالدعاء للمؤمنين أن يغفر لهم ويقيهم السيئات ، ويدخلهم الجنة مع أزواجهم وذرياتهم .

و معنى دعاء الملائكة : أنك يارب عندما تغفر وتصفح فأنت عزيز حكيم ، كما دعا العبد الصالح عيسى عليه السلام {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }المائدة118.

وكذلك قال الرجل المؤمن ( وأنا أدعوكم إ العزيز الغفار ) .

- ولماذا لا يؤمن الناس وهم غارقون في نعمه والله تعالى ذو الطول العظيم والإنعام الواسع .

- والآيات التي تناولت طول الله وإنعامه في السورة منها :

- هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ{13}.

- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ{61} ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{62} كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ{63} اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{64}.

- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{79} وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ{80} وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ{81}.

- وأخرى تناولت : الدعوة إلى الإيمان وإخلاص العبادة لله وحده الذي إليه مصير العباد وحسابهم ؛ فينبغي أن يعبدوه ويتجهوا إليه وحده في كل شؤونهم ، وليحذروا يوم القيامة حيث المرجع والمصير إلى الله وحده ، يومٌ تشيب منه الولدان وتنفطر به السماء :

- فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ{14} رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ{15} يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ{16} الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ{17} وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ{18} يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ{19} وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{20} .

فأما من آمن فقد نجا وتهيأ في الدنيا هنا وأعد لينال مغفرة الله وجنته ورضاه .

وأما من أصر وعاند فإن الله عزيز غالب على أمره شديد العقاب .

- وتراهم – بعد كل ذلك - يجادلون ليدحضوا الحق ويزيلوه ويزلقوه وما هو بزالق ولا زاهق .

- {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ }غافر4.

- {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }غافر5

- {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ }غافر35 .

- {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }غافر56 .

- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ }غافر69 .

- فانظر كيف حال العباد مع الله ، الله يدعوهم ليغفر لهم ، وهم يشتطون ويبتعدون ، ويجادلون فتكون عاقبتهم الإغراق أو الإهلاك ثم العذاب والإحراق في جهنم وبئس المهاد .

- وهنا يبرز دور أصحاب الدعوة ، يجادلون بالحجة والبرهان ، ويواجهون البغي والطغيان ، بالترغيب والترهيب ، ويعرضون الآيات البينات لمن أراد أن يذكر أو يخشى :

- {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ{27} وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ{28} يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ{29} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ{30} مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ{31} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ{32} يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ{33} وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ{34} الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ{35} وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ{36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ{37} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ{38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ{39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ{40} وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ{41} تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ{42} لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ{43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ{45}.

- ثم تعرض السورة بعض الآيات الكونية ، الشاهدة بعظمة الله ، الناطقة بوحدانيته وجلاله ، تلك الآيات التي لم يدَّع أحد في هذا الوجود أنها من صنع يده :

- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ{61} ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{62} كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ{63} اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{64} هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{65} .

- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{79} وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ{80} وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ{81} .

- وتحدثت السورة عن بعض مشاهد الآخرة وأهوالها ، فإذا العباد واقفون للحساب ، بارزون أمام الملك الديان ، يغمرهم رهبة وخشوع ، وإذا القلوب لدى الحناجر كاظمين :{ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب }

- وتضرب الآيات مثلا للمؤمن والكافر : بالبصير والأعمى ، فالمؤمن على نور من ربه وبصيرة وبيان ، والكافر مكب على وجهه يتخبط في الظلام [ وما يستوي الأعمى والبصير ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون ] .

- ألا يتعظ الكافرون بمن سبقهم : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ{82} .

- * وتختم السورة الكريمة بالحديث عن مصارع المكذبين ، والطغاة المتجبرين ، ومشهد العذاب الأليم يأخذهم وهم في غفلة يعمهون :

- فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون{83} فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ{84} فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ{85}.

- والدروس المستفاد من سياق السورة ومن قصة موسى والأنبياء عليهم السلام يأتي في الآيات الكريمة :

- إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{51} يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{52} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ{53} هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ{54} فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ{55} إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{56}.

1- فكما نصر الله الرسل ومكنهم في الأرض وأهلك عدوهم ، فسيكون لك ولأمتك النصر والغلبة والتمكين .

2 - وعدة الأمة وعتادها دوام العبادة والتوبة والاستغفار والتسبيح بالعشيي والإبكار.

- ولا يلقي المؤمن بالا بعد ذلك بالكافرين ومصيرهم ، فإن تابوا فإخوة في الدين ، وإن تمادوا في كفرهم واستمروا في غيهم ؛ فلهم اللعنة ولهم سوء الدار.

3 – الصبر : فاصبر يا ر سول الله كما صبر موسى والنبيون {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ }الأحقاف35 .

- فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ{77} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ{78}غافر.

- وليصبر الدعاة - حملة الرسالة - كما صبر نبيهم والنبيون من قبله ، حتى يكتب لهم النصر والتمكين .

- فما من نبي إلا وقد أوذي وصبر وجاهد .. جاهد النفوس ليقيمها على الحق ، وجاهد الجيوش بالسيف والسنان لكي يردها إلى الهدى والإيمان ، وجاهد المنافقين بالصبر حتى انكشفت أوراقهم ، وانجلت نياتهم .

- وهذا الدين ينتصر بجهد البشر ، فإن اجتهدوا وشمروا كتب لهم النصر ، وإن عصوا وقصروا هزموا . فلا مهرب من الأخذ بأسباب النصر ، كما تعلمنا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، وكما تعلمنا من قصة موسى والرجل المؤمن .

- فليس كون الإسلام دين الحق أن ينتظر الناس حتى ينتصر وحده ، بلا جهد منهم ولا مجاهدة :

- {... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }البقرة251 .

- فلابد من الصبر والجلد وطول النفس ، وتحمل المضايقات ومشاق الطريق ولابد من التضحية وبذل المال والجهد وكل ما في الوسع وكل ما في الطاقة وكل ماتتطلبه مرحلة الدعوة حتى يكتب النصر ، بعد هذا الصبر وتلك التضحية ، عن أنس – رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرًا ) في صحيح الجامع عند الألباني برقم 6806 .

- فقد تحتاج مرحلة الدعوة إلى المال فينفق ، وإلى الجهد فيبذل ، وإلى الرد على الشبهات ، وإزالة الغشاوات ، وقد تحتاج إلى الصبر على المدعوين وجهلهم ، وإلى الصبر على المنافقين ومكرهم ، والصبر على مواجهة الأعداء وكيدهم ، والصبر على مواجهة الطغاة وبطشهم ، وقد تحتاج الدعوة إلى الحركة بين الناس لتربية النفوس وتكثير الصفوف ، وقبل ذلك وبعده .. الصبر على جواذب القلوب وشهوات النفوس ، والصبر على تحصيل العيش الحلال ، والصبر على العبادة والمداومة على الطاعات ، والتزود بالقرب من الله ؛ ليكون زاده على الطريق ومعينه على الصعوبات .

- فالسورة في مجملها دعوة إلى الإيمان وقد حشدت لهذا الهدف آيات الله في الكون والآفاق وفي خلق الإنسان على السواء ، وعرضت نعم الله التي يغفل عنها المخاطبون ، وأنذرت بالعذاب الأليم الذي يلحق الكفار والمعاندين في الدنيا والآخرة .

- وتناولت ترغيب المؤمنين بالنصر والتمكين في الدنيا والجزاء العظيم في الآخرة :

- إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{51} .

- ( .... وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ{40}.

- والحمد لله أولا وآخرًا .

الأحد، 14 أبريل 2013

كيف نحيا بالقرآن ؟



أنزل الله – عز وجل - القرآن الكريم ، ليتدبر الناس آياته .

وآيات القرآن : تعرفنا بالله عز وجل ، وتعطينا التصور الصحيح عنه سبحانه وتعالى وعن أسمائه وصفاته ، وعن الكون وما فيه من بديع الصنع والإحكام ، وعن كيفية عبادته ، وعن الرسل وما بذلوه من جهد وما قابلهم به أٌقوامهم من كفر أو إيمان ، وتعرفنا ببعض الغيبيبات كالغيب الماضي ، عن خلق آدم وعن بداية خلق الكون ، وعن تاريخ الرسل ، وعن غيب المستقبل وما فيه من أحداث الساعة والحساب ومصير الناس إلى الجنة أو إلى النار وغير ذلك من مواعظ وإرشاد ودعوة إلى الهداية .

والقرآن تلاوته عبادة وقربى إلى الله ، وهو أكبر مولد للإيمان .

ولكن كم من الناس يقرؤه بانتظام ليتزود منه ، وكم من القراء يتدبره ويتأثر به ، ويهتدي به ويعمل بأوامره وينتهي ينواهيه ؟ .

وما السبيل الأقوم إلى حسن التعامل مع القرآن ؟ .

فلننظر أولا كيف تعامل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه الكرام والتابعون مع القرآن .

تأثر الرسول بالقرآن:

نردد دوما بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا، وأسوتنا، وأنه النموذج الكامل الذي ينبغي أن نحتذي به {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }الأحزاب21 .

و لا نشك أبدا في حب المسلمين جميعا لرسولهم العظيم، ولكن هذا الحب لابد من إقامة الدليل عليه ، فالبينة على من ادعى .

وأكبر دليل على الحب:الطاعة و الاتباع ، وصدق من قال:"إن المحب لمن يحب مطيع" .

فهل تأسينا به – صلى الله عليه وسلم – في اهتمامه بالقرآن حيث كان يتلوه ويقوم الليل به ، وكان سلاحه في دعوته إلى الله ؟ .

فالرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم مكانة القران عند ربه، وليس أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم (ما من كلام أعظم عند الله من كلامه ،وما رد العباد إلى الله كلاما أحب إليه من كلامه) رواه الدارمى ، وقوله (القران أحب إلى الله من السموات والأرض ومن فيهن) رواه الدارمى ، وقوله( من شغله قراة القران عن مسألتي وذكرى أعطيته أفضل ثواب السائلين. وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) رواه الترمذى

لقد كان حبه صلى الله عليه وسلم واهتمامه بالقران لا يمكن وصفه فقد سيطر القران على عقله ومشاعره سيطرة تامة وبلغت قوة تأثيره عليه ان شيب شعره فقد دخل عليه يوما ابو بكر رضى الله عنه فقال له لقد شبت يا رسول الله قبل المشيب فقال : شيبتني هود وأخواتها) رواه الترمذى .

وفى يوم من الأيام قال لعبد الله بن مسعود اقرأ على القران فقال اقرأ عليك وعليك أنزل قال إنى أحب أن أسمعه من غيرى فقرأ عليه سورة النساء حتى اذا جاء إلى قوله تعالى : (فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال حسبك فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان متفق عليه .

وفى ليلة من الليالي وبينما كان يسير صلى الله عليه وسلم فى طرقات المدينة سمع امرأة تقرأ(هل أتاك حديث الغاشية) فقال نعم قد أتاني وهو يبكى... لقد تشبع صلى الله صلى الله بالقران تشبعا تاماً وتأثر به تأثراً بالغا لدرجة أن الإمام الشافعي يعتبر أن السنة هي نضح القران على عقله صلى الله صلى الله وفهمه له.

نماذج من تأثر السلف بالقرآن :

) قال عبدالله بن عروة ببن الزبير : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن ؟ قالت : ( تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله ) .

2) روى ابن أبي الدنيا من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، قال : سمعت عبدالله بن حنظلة يوما وهو على فراشه وعدته من علته ، فتلا رجل عنده هذه الآية { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } فبكى حتى ظننت أن نفسه ستخرج ، وقال : صاروا بين أطباق النار ثم قام على رجليه ، فقال قائل : يا أبا عبدالرحمن اقعد ، قال منعني القعود ذكر جهنم ولعلي أحدهم .

3) قال ابن أبي مليكة : صحبت ابن عباس في السفر ، فإذا نزل قام شطر الليل يرتل القرآن حرفا حرفا ويكثر من النشيج والنحيب .

4) ومن حديث أبي بكر بن عياش قال : صليت خلف الفضيل بن عياض صلاة المغرب وإلى جانبي علي بن فضيل فقرأ الفضيل { الهاكم التكاثر } فلما بلغ { لترون الجحيم } سقط علي مغشيا عليه ، وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية ، ثم صلى بنا صلاة خائف ، قال ثم رابطت علياً فما أفاق إلا في نصف الليل .

5) سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور فلما بلغ إلى قوله تعالى { إن عذاب ربك لواقع ، ما له من دافع } قال عمر : قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلى منزله فمرض شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه !

6) قال محمد بن حجادة : قلت لأم ولد الحسن البصري ما رأيت منه - أي الحسن البصري - فقالت : رأيته فتح المصحف ، فرأيت عينيه تسيلان وشفتيه لا تتحركان .

7) قال قتادة : ( ما أكلت الكرات منذ قرأت القرآن) ، يريد تعظيما للقرآن . ) وكره أبو العالية : أن يقال سورة صغيرة أو قصيرة وقال لمن سمعه : ها أنت أصغر منها ، وأما القرآن فكله عظيم .

أصحاب النبي وحفظ القرآن

كان القرآن الكريم يكتب في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – في سعف النخيل , والعظام , والحجارة الملساء وغير ذلك .

وكتاب الوحي من الصحابة معروفون , رضي الله عنهم . ولكن كم من الصحابة أتم حفظ القرآن ؟ .

الواضح أن الصحابة الكرام معظمهم كان يحفظ من القرآن قدرً ا, لكنه لم يتم حفظه , هذا في الغالب .

أما الذين أتموا حفظ القرآن الكريم فكانوا قلة . فقد أخرج البخاري عن أنس – رضي الله عنه – قال : ( مات النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبوا الدرداء , ومعاذ بن جبل , وزيد بن ثابت , وأبو زيد . قال ونحن ورثناه )صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن .

ويلاحظ أن الحفاظ الأربعة من الأنصار .وذكر البعض أن الحفاظ من الصحابة كانوا أكثر من ذلك وأوصل ( المازري ) العدد إلى خمسة عشر صحابيًا ( كتاب علوم القرآن د / محمد السيد جبريل ) .

وعندما جُمع القرآن في زمن الصديق رضي الله عنه , أُخذ من صدور المئات من الرجال , لكنهم لم يكونوا حفاظًا لكل القرآن بالضرورة .

إن المعنى الذي أريد أن أصل إليه هو : أن الصحابة الكرام كانوا يتسابقون في التأثر بالقرآن , والعمل به وتطبيق تعاليمه ؛ فكانوا مثلا عملية , ومشاعل مضيئة , وقرآنا يمشي على الأرض .

أحسنوا التعامل مع القرآن فأخرج منهم نماذج ناصعة لم يخرج مثلها التاريخ .

هذه النماذج التي خرجت من قلب الصحراء , أقام الله بها حضارة دانت لها الفرس والروم وقارات العالم , وأصغت لها مسامع الدنيا إلى يومنا هذا , سادت بقيمها , ومبادئها , وأخلاقها , وسلوكها , وليس بمجرد حفظ القرآن في الصدور .

وإذا كنا قد سمعنا عن العباد من التابعين من يصلى الفجر بوضوء العشاء لعدد من الأعوام المتوالية , وعن كثرة الحفاظ للقرآن والحديث الشريف وأبواب العلم . إلا أن الثابت والأكيد أن الصحابة الكرام كانوا أقوى إيمانا وأثقل ميزانا.

وعندما قال سيدنا أبو هريرة لبعض التابعين : إن هذه الذنوب التي يعتبرها بعضكم ذبابا وقع على وجهه , كان الصحابة يعتبرونها كالجبال ؛ فمعنى هذا أن الفرق بين الصحابة والتابعين , كالفرق بين حجم الذبابة وحجم الجبال !

وبين الله – عز وجل - أن الهدف من إنزال القرآن الكريم هو التدبر : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }ص29.

وكم رأينا من الحفاظ من يجاهر بالمعصية , ويقصر في الفرائض , ويؤيد الظالمين , ويحل الحرام .

هل هذه دعوى لعدم الحفظ ؟ بالطبع لا , بل نريد من شبابنا أن يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، وينشغل بالقرآن في حله وترحاله , ولكن ندعوه إلى تدبر القرآن ليتأثر به , ويترك القرآن يغير فيه ليعود نموذجا ربانيا جديدًا وروحا ا يسري في هذه الأمة فيحييها بالقرآن .

وإذا أردنا العودة إلى مجدنا التليد , وماضينا العريق ؛ فلا بد من العودة إلى مصدر الوحي الصافي : القرآن والسنة المطهرة .

إذا أردنا أن نقيم حضارتنا من جديد , ونمكن لشرع الله , ونزيل الشر والفساد من الأرض , حتى يعبد الله وحده , ونقضي على العوائق من طريق الدعوة إلى عبادة الله ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) فلا بد من تطبيق تعاليم القرآن والسنة على مستوى الفرد والمجتمع .

ولنبدأ من تدبر القرآن , وليعتبر كلٌ منا أن القرآن يخاطبه هو وليوقن بقول الله تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) .

وأن العاصي أيا كانت معاصيه , وأن المفسد أيا كان فساده ؛ فإن القرآن قادر على هدايته : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) .

وإذا اعترضنا سؤال هنا : لماذا لم يخرج جيل رباني عظيم كالجيل الأول من الصحابة والتابعين : مجاهدين وعلماء وعبادا ؟

والإجابة تجلي الغامض وتكشف المستور :

إنهم كانوا :

1- إذا دخلوا الإسلام خلعوا رداء الجاهلية كله ولبسوا رداء الإسلام كله . يخرجون من نظام الجاهلية كله إلى الإسلام كله .

2 - كانوا يقرؤون القرآن للعمل والتطبيق ، وليس لمجرد التأثر العابر . فعملوا به ونفذوا تعاليمه في كل شأن من شؤونهم تاركين كل ما كانوا عليه مما يخالف تعاليمه ويجافي هداياته ، طيبة بذلك نفوسهم ، طيعة أجسامهم ، سخية أيديهم وأرواحهم ، حتى صهرهم القرآن في بوتقته وأخرجهم للعالم خلقا آخر مستقيم العقيدة قويم العبادة طاهر العادة كريم الخلق نبيل المطمح .

3 - كانوا يعلمون أنهم مخاطبون بالقرآن ومكلفون بأوامره ونواهيه وأمناء عليه وعلى نشر تعاليمه ورسالته في ربوع الأرض ، فاستبسلوا في نشر القرآن والدفاع عنه وعن هدايته فأخلصوا له وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه وهو مدافع عنه ، ومنهم من انتظر حتى أتاه الله اليقين وهو مجاهد في سبيله مُضحٍ بنفسه ونفيسه . ولقد بلغ الأمر إلى حد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرد من يتطوع بالجندية من الشباب لحداثة أسنانهم وكان الكثير من ذوي الأعذار يؤلمهم التخلف عن الغزو .

فكان هذا النجاح الباهر الذي أحرزه القرآن في هداية العالم في زمن قصير، واستمر هذا النجاح إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله ؛ لأن ( هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) .

4 - تنافسهم في حفظه وقراءته في الصلاة وفي غير الصلاة ، حتى لقد طاب لهم أن يهجروا لذيذ منامهم من أجل تهجدهم به في الأسحار ، ومناجاتهم العزيز الغفار . وما كان هذا حالاً نادرا فيهم ، بل ورد أن المار على بيوت الصحابة بالليل كان يسمع لها دويا كدوي النحل بالقرآن .

وكان التفاضل بينهم بمقدار ما يحفظ أحدهم من القرآن . وكانت المرأة ترضى بل تغتبط أن يكون مهرها سورة يعلمها إياها زوجها من القرآن .

5 – كان الوحي ( بشقيه القرآن والسنة ) هومصدر ثقافتهم وبناء شخصيتهم ، وتذكر عندما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيئا من التوراة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ... فقال له : لو كان موسى بن عمران حيا ما حق له إلا أن يتبعني .

فحصن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسياج الوحي حفظا من ثقافات العصر آنذاك : ثقافة الروم في مصر والشام والفرس والحبشة وغيرها .

من خصائص القرآن الكريم :

- إنه يخاطب العقل والقلب معا ، يخاطب الفكر والوجدان ، يقدم الأدلة والبرهان ، ويجذب القلوب بإبداع الله في صفحات الكون وجنبات النفس ، وبآياته البينات التي تسلك إلى القلوب فتصلها برب القلوب .

- يحول الحالة الإيمانية الموقتة إلى مقام دائم ، فيدوم صاحب القرآن على الإخلاص والإنفاق والتوبة والرهبة والرغبة ...

- كما أن القرآن يعالج كل مقامات الإيمان : الخوف والرجاء والثقة والتوكل واليقين بالله ... الخ .

- وهذه خصائص ينفرد بها القرآن عن سائر العبادات ، فثبت بذلك أنه أعظم مولد للإيمان ومثبت للطاعات .

قالوا عن القرآن :

يقول الإمام حسن البنا :

وإنما نزل القرآن في رمضان لأنه روحٌ من الله يجب أن تجهز لها الأرواح بهجران المادة والصوم عن الشهوات جملةً حتى يصادف وعاءً خاليًا فيتمكَّن، وتقع القلوب والأفئدة مبصرةً على ضوءٍ واضحٍ ساطعٍ من سناه فترقُّ وتتمعَّن، فكانت المناسبة بين القرآن ورمضان هذا الصوم الحسي الذي تتطهر به أرواح المؤمنين، فتسمو إلى عليين، أو أنه لهذا المعنى فُرض الصيام في رمضان تكريمًا لأيامه ولياليه التي أنزل فيها القرآن

ويقول : ألا وإنها الفتنة مخيَّمة بالناس في ظلمات المبادئ المادية الفاسدة والآراء الظالمة الجاحدة، ولا مخرجَ منها إلا كتاب الله، وأنتم- أيها المسلمون- حملته، وقلوبكم أوعيته؛ فهل آن لكم أن تتدبَّروه فتفقهوه فتقيموه فتَسعدُوا به وتُسعِدُوا معكم البشريةَ المعذبةَ، وترشدوا باتباعه وتُرشِدُوا القافلةَ الضالة، وتلك رسالتكم اليوم كما كانت رسالة أسلافكم بالأمس.. فهل أنتم لها مُقدِّرون؟ وفي سبيلها مجاهدون؟ نرجو أن يكون!

قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما معناه : من أحب القرآن فقد أحب الله .

((من لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر، لم يدرك من لذة القرآان شيئاً))

[الزركشي،البرهان2 / 171]

((إني لأعجب ممن يقرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته))

[ابن جرير الطبري، معجم الأدباء ،18 /63 ]

المطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به ، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين )) [شيخ الإسلام ابن تيمية ، الفتاوى،23 /54]



((ياابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك في آخر السورة ؟ !))

[ الحسن البصري، مختصر قيام الليل للمروزي ص 150]

إذا مر- متدبر القرآن بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم ، وأنفع للقلب ، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن)).

[ ابن القيم ، مفتاح السعادة ، ص221]

قال الشيخ محمد الغزالي :

كان الأولون يقرؤون القرآن فيرتفعون إلى مستواه ، ونحن نقرأ القرآن فنشده إلى مستوانا !

لما فشلوا في تربية الرجال على القرآن ، استعاضوا عن ذلك ببناء مساجد ضخمة فيه رجال أقزام !

ويقول : إن هذا القرآن يبدئ ويعيد ، وإني لأقرأ القرآن فلا أستطيع إلا أن أتركه يفعل في نفسي ما يريد .

هناك آداب يجب مراعاتها :

وهذه الآداب منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب بالنص ، ومنها ما هو مرغب فيه عند بعض العلماء وليس فيه نص .. أولاً : آداب قلبية

1) أن يخلص لله في قراءته بأن يقصد بها رضى الله وثوابه ويستحضر عظمة منزل القرآن في القلب ،فكلما عظم الله في قلبك وخافه قلبك وأحبه كلما عظم القرآن لديك ، وأن يتنبه إلى أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وأن لا يطلب بالقرآن شرف المنزلة عند أبناء الدنيا . قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله .

2) التوبة والابتعاد عن المعاصي عموما فهي تذهب بنور الإيمان في القلب والوجه وتوهن القلب وتمرضه وتضعفه ، فالقلب المريض أبعد الناس عن التأثر بالقرآن ، وعلى وجه الخصوص (القلب والسمع واللسان والبصر ) فاستخدام هذه الأدوات في الحرام يعرضها لعدم الانتفاع بها في الحق . ومن أخطر المعاصي وأعظمها صدا عن التأثر بالقرآن وتدبره ، الغيبة والنميمة ، والفحش في القول ، والسب والطعن في الناس ، والكبر والحقد ، والنظر إلى محارم الناس ، وسماع الغناء الذي يحرك الغرائز ويحض على الفاحشة والأفلام والمسلسلات والبرامج ذات الحوارات الفارغة التي لاجدوى تذكر من ورائها .

3) أن يحضر القلب ويطرد حديث النفس أثناء التلاوة ويصون يديه عن العبث وعينيه عن تفريق نظرهما من غير حاجة .

4) التدبر ومحاولة استيعاب المعنى لأنها أوامر رب العالمين التي يجب أن ينشط العبد إلى تنفيذها بعد تدبرها .

5) أن يتفاعل قلبه مع كل آية بما يليق بها فيتأمل في معاني أسماء الله وصفاته حسب فهم السلف ويتأسى بأحوال الأنبياء والصالحين ويعتبر بأحوال المكذين .

6) أن يستشعر القارئ بأن كل خطاب في القرآن موجه إليه شخصيا .

7) التأثر فيتجاوب مع كل آية يتلوها فعند الوعيد يتضاءل خيفة ، وعند الوعد يستبشر فرحا ، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعا ، وعند ذكر الكفار وقلة أدبهم ودعاويهم يخفض صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم ، ويرتعد من النار عند ذكرها .

ويشتاق للجنة عند وصفها .

8) أن يتبرأ من حوله وقوته إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ويتحاشى النظر إلى نفسه بعين الرضا والتزكية .

9) أن يستحضر المعاني التي حصلها من التفسير عند تلاوة الآيات فهذا أدعى للتدبر والتأثر . وأن يتحاشي موانع الفهم كأن يصرف همه كله إلى تجويد الحروف دون النظر إلى المعنى .

10) مراعاة آداب التلاوة .

11) مداومة التلاوة والوقوف عند كل آية وتدبرها والانفعال معها .

12) تسجيل الخواطر والمعاني لحظة ورودها أو بعد الانتهاء من القراءة .

13) الاطلاع على تفسير مختصر لبيان ما يخفى عليه من المعاني والأحكام . مثل كتاب زبدة التفسير للشيخ محمد سليمان الأشقر ، أو تفسير الشيخ محمد حسنين مخلوف ، أوتفسير الجلالين ، أو ما شابه ذلك .

14) محاولة تطبيق كل آية في كتاب الله تمر أثناء القراءة في الواقع واستخراج العبر والعظات من قصص السابقين وتدوينها والرجوع إليها بعد الرجوع إلى التفاسير المعتمدة .

15) الحرص على حفظ الآيات في الصدر كما فعل سلفنا الصالح وكما كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحفظ عشر آيات ولا ينتقل إلى غيرها حتى يطبقها وتكون واقعا عمليا في حياته .

16) الاطلاع على تفسير مطول يتوسع صاحبه في مباحثه ويستطرد في موضوعاته ويعرض ألوانا مختلفة من المعارف والثقافات مثل تفسير ابن كثير وتفسير الطبري وتفسير السعدي وأضواء البيان للشنقيطي .. وغيرها .

وأخيرًا أوصيك بأن :

o تدعو الله بإلحاح بأن يرزقك فهم القرآن وتدبر آياته, وذلك كل مرة .

o تفتح قلبك لكلام الله ليعمل التأثير المطلوب فينيره ويشرحه .

o تخصيص وقت معين يوميًا لورد القرآن .

o تقرأه في مكان هادئ بعيدًا عن الضوضاء والإزعاج .

o أن تقرأه بصوت مسموع .

o القراءة بالترتيل .

o أن تأخذ المعنى الإجمالي للآيات .

o أن تقف عند كل آية لتعطيك ما فيها من معنى .

o أن تكرر الآية التي تتأثر بها .

o أن تعتبر نفسك مخاطبًا بالقرآن .

















الأحد، 24 مارس 2013

قراءة في سورة الواقعة



الهدف العام للسور الكريمة / بناء الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد ..

يدل سياق السورة على أن بناء الإيمان يكون من خلال إثبات وقوع القيامة والبعث والحساب ، والجنة والنار ، وإثبات خلق الله للإنسان والزرع والماء ، والنجوم والأجرام ، وهو منزل القرآن الذي يخبرهم بكل ذلك ، وهو المحيي المميت ، المجازي كل نفس بما عملت .

فإن كانوا غير محاسبين وغير مؤمنين بالبعث والحساب ، وإن كان ذلك غير حاصل – حسب زعمهم – فليرجعوا الروح فلا تخرج من جسد الإنسان إن كانوا صادقين في زعمهم !

والرد عليهم جاء في سياق السورة ( قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) . وبعرض الجزاء الكريم للمقربين وأصحاب اليمين ، وبوقوع العذاب المهين لأصحاب الشمال المترفين .

وفي قوله سبحانه : (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) .

وتنتهي السورة بالتسبيح ، وهو المقام اللائق بالخالق العظيم ..

ويأتي التسبيح تنزيها لله ، وانبهارا بعظيم قدرته وبديع صنعه .

وتبدأ السورة التي بعدها – وهي سورة الحديد – بالتسبيح أيضا : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الحديد1 . اتساقا مع هذا المعنى وترتيبا عليه .

وتبقى للمؤمن وقفة مع الآيات وهويقلب صفحات المعذبين وينظر أعمالهم ، وصفحات المنعمين وينظر أعمالهم . وهو ما زال في الدنيا وقد منحه الله فرصة الحياة ، وهبة الإيمان بالله والقرآن ، فيغتنم الفرصة ، ويملأ الأوقات ، ويشغل الأنفاس ، والحركات والسكنات ، ونومه ويقظته ، وحله وترحاله ، بما يقربه من ربه ومولاه ، الذي خلقه وهداه ، إلى أن يذوق حلاوة القرب التي لا تعدلها زخارف الدنيا ، وتهديه طاعاته إلى حب الله والشوق إليه ، وطلب رضاه ..

وإنه لمشوار طويل يستغرق الأعمار ، ويطوي الأوقات ، وإن الأعمار لقصيرة - لو كانت كلها في طاعة الله - إذا قوبلت بنعم الله .

والحمد لله رب العالمين .

الاثنين، 25 فبراير 2013

كتاب أدب النفس للترمذي



الفصل الأول :
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الشيخ الإمام العارف، أبو عبد الله أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي، رحمه الله تعالى:
إن الله أنشأ خلقه لإظهار ربوبيته، ولبروز آثار قدرته، وتدبير حكمته، وليكون ذكره ومدحه مرددا على القلوب، وعلى ألسنة الخلق والخليقة، لما علم في غيبه، فأنبأنا في تنزيله، فقال جل ذكره: (وخلق الله السموات والأرض بالحق، ولتجزي كل نفس بما كسبت)، فأعلمنا لم خلق، فقال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فقال أهل اللغة: إلا ليوحدون، ومثل ذلك قوله تعالى: (إياك نعبد) يعني نوحد، لأن في
توحيدهم إياه بأن لا إله إلا هو، إقرار له بالملك والقدرة، وإضافة الأشياء إليه. فهذه الكلمة تنتظم المدح، وأباح ذكره على كل حال، تقديماً له على سائر الحالات وأعمال البر، وحصر ما سواه من الأفعال في أوقات مخصوصة، مع ما ذكر في الكتاب، وجرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بتفصيل الذكر على سائر الطاعات، لأن في الذكر مدحه، وجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى جده). حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله عز وجل؛ ومن أجل ذلك حرم الفواحش)،
وندب العباد في غير آية من كتابه إلى أن ينشروا ذكره، ويذكروا عنه جميل صنائعه، فقال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها). في كل ذلك
يحثهم على مدحه وذكره بالجميل والثناء الحسن، وفي كل أسم له مدحه، وجميل ذكره، ودعاهم إلى توحيده، فقال: (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد). وقال: (وما أرسلناك من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) أي وحدون، لأنك لا تكون له عبداً حتى يكون لك رباً لا شريك له، فمن أشرك به خرج من نظام التوحيد، فهو وإن كان
له عبداً من طريق الملك، فالعبد بنفسه لم يصير نفسه عبداً، فيكون قد وحده وعبده، وإنما أطاعه لأن الله تعالى أمره أن يطيع، فأطاعه مولاه بأمر الله تعالى، فمن أطاع بأمر الله فهو مطيع لله، ثم إن الله تعالى دعاهم إلى أن يوحدوه قلباً وقولاً وفعلاً، فمن قبل ذلك منه جملة، فاستقرت المعرفة بأنه واحد، فاطمأن به قلبه، وترجم به لسانه عما في ضميره، وعزم على الفعل مائلاً له، فقد آمن به. وهذا كله من العبد في وقت واحد، فركب فيه الشهوات والهوى، وجعل للشياطين فيهم وساوس يجرون فيه مجرى الدم، ويغوصون غوص النون في البحر، وجعل القلب ملكاً على الجوارح، فالشهوة تحرك البدن الساكن، وتزعج القلب، والشيطان يمنيه له ويعده، والهوى يميل به ويقوده، فالمؤمن قلبه مطمئن بالإيمان، والتوحيد ظاهر على لسانه،
فإذا جاء وقت فعل الأركان عمل فيه الشهوات، وزين له العدو، ومال به الهوى، حتى يفعل الفعل الذي يخيل إليك في الظاهر أنه لم يؤمن بعهد، فهو موحد بالقلب واللسان، ولكن لغلبة الشهوة وقوتها، فبظلمة هذا الهوى، ووسوسة هذا العود والتزين، غلب على القلب لا على ما في القلب، مما في القلب من المعرفة، فالقلب به مطمئن، ولكن صار مأسوراً مقهوراً، وهو أبداً لمن غلب عليه وقهره.
فخلق اللوح، وجرى القلم بمقادير الخلق، وخلق السموات والأرض، والظالمات والنور، والليل والنهار، والملائكة، والجنة والنار، والجن والشياطين، والجبال والبحار، والدواب والأقوات والمعايش، وسائر الخليقة.
ثم خلق آدم عليه السلام، فاصطفاه، وجعله بديع فطرته، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء، وأبان فضله وكرم بنيه، وحملهم في البر والبحر، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وسخر له ولذريته ما في السموات والأرض
واستخرج ذريته من ظهره، وأخذ عليهم الميثاق، ثم ردهم إلى صلبه، ثم نقلهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى دار الدنيا ليعبدوه، وليوفوا له بما عهد إليهم يوم الميثاق، بأن لا يشركوا به شيئاً، إلى آجالهم التي كتبها في المقادير، إلى أن تنقضي مدة الدنيا، فيبعثهم للجزاء، وتبديل الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار، وليجزي كل نفس بما كسبت، ليكونوا فريقين، فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير.
فمن نوّر الله قلبه بالإيمان قويت معرفته، واستنارت بنور اليقين، فاستقام به قلبه، واطمأنت به نفسه، وسكنت ووثقت وأيقنت، وأتمنته على نفسها، فرضيت لها به وكيلاً، وتركت التدبير عليه، فإن وسوس له عدو بالرزق والمعايش، لم يضطرب قلبه ولم يتحير، لأنه قد عرف ربه معرفة أنه قريب، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنه رءوف رحيم، وأنه رب غفور رحيم، وأنه عدل
لا يجوز، وأنه عزيز لا تمتنع منه الأشياء، وأنه يجير ولا يجار عليه، فكما خلقه محتاجاً مضطراً، فإنه سيوصله إليه من حيث يريد الرب تبارك وتعالى، لا من حيث يريد العبد، على الهيئة التي يريد الرب، لا على الهيئة التي يريد العبد، وبمقدار ما يريد الرب، لا بمقدار ما يريد العبد، وفي الوقت الذي يريد الرب، لا في الوقت الذي يريد العبد؛ فعامة أهل التوحيد قد أيقنوا بهذا، إيماناً به، وقبولاً له، ولم يستقر ذلك الإيمان في قلوبهم، حتى إذا كان وقت، الحاجة اضطربت قلوبهم وتحيرت، واشتغلت عن خالق الأشياء، ومالك الملوك، وأهل اليقين الذين قد استنار الإيمان في قلوبهم، سكنت القلوب، واطمأنت النفوس إلى ضمان ربها، وقربه منهم، وقدرته عليهم.
فهذا شأن الرزق والمعاش. وفوضوا أمورهم فيما سوى المعاش إليه، واتخذوه وكيلاً، لأنهم لما عرفوا بأنه رءوف رحيم منهم بأنفسهم، وأحق وأولى بأنفسهم من العبيد بأنفسهم، لأنه خلقهم فصورهم، وركبهم وأحسن تقويمهم، وسوى تعديلهم، فلم يكن لهم بأنفسهم من العلم والتدبير ما دبر لهم، وعرفه ملكاً قادراً قاهراً، يفعل ما يشاء، قد سبق علمه فيهم، بما يكون فيهم ولهم وعليهم، وجرى مع سابق العلم لهم بذلك قلمه في اللوح المحفوظ، ليكون أوكد في قلوب العباد، لأن سابق العلم غائب عن القلوب لا يدري كنفسه، واللوح قد خط بالقلم فيه أمر محدود، وشخص مخلوق، ويدرك بالقلوب معاينة، فما عاين القلب وأدركه أثبت عندهم مما لا تعاينه القلوب، ولا يمكن توهمه، فخلق اللوح وأثبت مقاديرهم فيه، لا لحاجة به إلى ذلك، وليكون أثبت على القلوب، لتسكن النفوس وتستقر على ما جرى القلم به، فإذا سكنت النفوس، تفرغت القلوب لعبادته، وحفظ حدوده، وإقامة أموره، وسقطت أشغال النفوس عن القلوب
فيما يراد بها، وما يكون وما يحدث، لأنها قد أيست عن أن يكون غير ما جرى به القلم، وعند الإياس تسكن النفوس، وإنما دعانا إلى أن بعبده، ونقيم حدوده، ونقيم فرائضه، ونتجنب مساخطه، ولنا قلب واحد، فأثبت في اللوح أرزاقنا وسعينا، وآثارنا وأحداثنا، ومدة آجالنا، وعامة أمورنا، لتطمئن النفوس، وتخلص القلوب من وساوسها، فتبده بفراغ، وكل ذلك منه رحمة علينا، وبين ذلك في تنزيله، فقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)، أي من قبل أن نخلق تلك المصيبة، ثم بين لم فعل ذلك، فقال: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم). فإن التأسي على الشيء الذي لم يقدر لك في اللوح هو استبداد وطلب ما ليس لك، والفرح بما آتاك يلهيك ويشغلك عن المعطي، حتى تأشر وتبطر بما تعطى، فتهلك،
وإنما المبتغى منك في ذلك أن تلهو عن الغائب، وتفرح في الوجود الذي
أتاك بالأهل الذي أتاك، ثم بفضله ورحمته عليك، وإلى هذا ندبك فقال: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون). وقال تعالى في شأن الرزق: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين). ثم قال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). أي من يأكل تلك الحبة ومن يرزقها. فان اضطربت نفسه على ضمانه لقلة اليقين وغلبة الهوى وحرارة الشهوات، خاطب نفسه فقال: يا أيتها
النفس لم تضطربين؟ قالت: لأني محتاجة، وخلقت مضطرة، ذات شهوات، لا أبصر أمكنة الأشياء، ولا أعرف أوقاتها، ولا أعلم مقدارها، واشتبهت على كيفية أسباب وصولها إلي. فقال لها: أيتها النفس، إن كنت قد آمنت بربك، فحقيق عليك أن يكون كلام رب العالمين ووعده وضمانه وتكليفه، أثبت عندك وأوكد وأقوى من الذي تبصرينه على المشاهدة، لأن البصر ربما أخطأ، وربما كان مسحوراً، يرى أنه كذلك وليس كذلك، وقول رب العالمين أصدق وأبر، وأوفى وأثبت من بصرك بعينك، فلو أبصرت الشيء الذي يحويه ملكك اطمأننت وسكنت، فكيف لا يكون بضمانه أشد طمأنينة، أرأيت لو كان لك ديوان فيه غرماء ملاء أسماؤهم، مكتوب فيه: على فلان ألف درهم، وعلى فلان ألف دينار، وعلى فلان عشرة آلاف درهم، أكنت تطمئنين؟ فإن وجدتها قد طابت وسكن اضطرابها لما وجدت في الديوان من أسماء هؤلاء، وهم أهل صدق ووفاء، فأنشر
عليها ديوان رب العالمين، وهو القرآن المجيد المنسوخ في اللوح المحفوظ، تنزيل من الرحمن الرحيم، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول رب العالمين، فقلب أوراقه، حتى تقف بها على آية الرزق، حيث يقول تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله
رزقها). ثم قال لها: أيتها النفس المطمئنة، وجدت في ديوانك على هؤلاء الغارمين ما وجدت، وفرحت وأمنت الفقر فطبت، فهذا في المصحف قوله: (على الله رزقها). أهذا أعظم شأناً، وأصدق وأبر وأوفى، أم الذي وجدت في ديوانك؟ أما تستحين أن تلقى ربك بهذه الحالة، ولكني قد فهمت لم اضطربت بعد أن أيقنت بضمان ربك، إنك ذات شهوات، فيك شهوة العز، فأنت تهربين من الذل، وفيك شهوة ألوان الطعام، فأنت تهربين من البؤس، فيك شهوة إدراك المنى، فأنت تهربين من فوتها.
وإنما تضطربين لأنك أردت أن يكون رزقك في وقت، وأراد بك في وقت آخر، واشتهيت أن يكون على صفة، وأراد ربك غير ذلك، وأردت من وجهه راحة، وأراد ربك من وجه تتعبين فيه، وأردت كثيراً، وأراد ربك أقل من ذلك، فأصبحت وأمسيت مخالفة لربك في مشيئاته وإرادته، فحملك ذلك على الشهوة، حتى غلبتك، فرمتك في أودية المهالك، فأقبلت بهلعك وجزعك على حطام الدنيا، من سبيل الخبائث والأقذار والشبهات والأوساخ، لسكون نفسك به، ثم منعت حقوق الله فيه من ظاهر الأحكام، فقطعت الأرحام، وباغضت العباد، واستخفت بحقوق المسلمين والمؤمنين، وهربت من إنصافهم، وجفوت أهل الحرمة، فأصبحت وأمسيت ظلوماً غشوماً، ووعيد الله ينادي في سمعك قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين).
فهل تعرف مقدار الخردلة من الظلم ما هو، وكيف يكون؟ لو نجع فيك هذا الوعيد لطارت منك الشهوات، ومات منك الهوى. فأهل الفهم راضوا أنفسهم وتدبروا، فقالوا: كيف كيف لنا بأن لا نأسى على ما يفوتنا من الدنيا، وتمنوا إليه حاجة، وطلبوا من أين يدخل الضرر عليهم، فوجدوا أنهم لما عارضتهم الحوائج في أنفسهم، تحدثوا بها وتمنوها، وطلبوها على التملك والاقتدار، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فلما فاتهم، وجدوا الأسى والحزن على
فوت ذلك؛ ففهموا أن هذا إنما دخل عليهم من أجل أنهم تمنوها، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فوجدت النفس حلاوة وجودها، وقوى الهوى، فراضوا أنفسهم بترك الشهوات، وقطع المنى، فخمدت نيران شهواتهم، ففارقوا الهوى جهدهم، لمجاهدتهم إياه، حتى ذلل وأنقمع، وكلما بدا لهم أمر، أو خطر ببالهم، لم يتمنوا ولا أطمعوا أنفسهم، وانتظروا ما يبرز لهم من المسطور في اللوح السابق قبل خلق السموات، فسلموا لربهم، وانقادوا لحكمته كالعبيد .
فعاشوا في الدنيا بأرفع درجة، وأكرم منزلة عند أنفسهم، وأنعم بال وأقر عين بهذا الدين، وماتوا بروح وريحان، ولقوا ربا غير غضبان، ورضوا عن مولاهم، فرضى عنهم، فأيدهم في الدنيا بروح منه، وفي الآخرة قربهم ولطف منهم، (أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون). أولئك (أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). استنارت قلوبهم باليقين، فصارت أمورهم في نوائبه كالمعاينة، كلما حل بهم أمر من عسر أو يسر، أو خوف أو أمن، أو ذل أو عز، أو بلاء أو نعمة، حرقت أبصار قلوبهم، فأبصرت في لحظة أن هذا الأمر قد كان في اللوح المحفوظ كما برز لنا الآن، وهو حكم الله علينا، لم يكن فيهم من الشهوات ولا من الهوى من القوة ما يثقل عليهم قبوله من ربهم، وتلقوا أمره بالهشاشة وطلاقة النفس وبشر
الوجوه، فهم الراضون والصابرون، قبلوا على كره من نفوسهم وجهد، لأن شهواتهم حية قوية في نفوسهم، ويقينهم ضعيف، لم يبصروا اختيار الله لهم ذلك، ورأفته ورحمته عليهم، ولم يكن لا اختيار الله تعالى ولا لمشيئته عندهم موقع حلاوة، فكانت تلك الحلاوة تمازج مرارات النفوس، فتذهب بالمرارة، كما تجد المرارات في الأدوية، فتمزج بالعسل والسكر وما أشبه ذلك، فيغلب عليه، فتفقد تلك المرارات منه؛ وإنما تقع حلاوة صنع الصانع في قلبك على قدر حبك للصانع، وإنما تحب الصانع على قدر معرفتك بقدره، وكلما كنت به أعلم، وكان هو أرفع منزلة في الأشياء، كان
قدره عندك أعظم، وهو إليك أحب، ولذلك قيل: أشدهم حبا له أعلمهم به، وأعرفهم له، ومنه قول بديل العقيلي: (من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها). رواه ابن المبارك، عن سفيان الثوري رحمهما الله تعالى، قال: كتب الحجاج بن فرافصة عن بديل رحمه الله.
فمن عجز عن الرياضة، فإنما يقبل أحكام الله تعالى ومشيئاته على حد الإيمان، وصبر على أموره على حد التقوى بأركانه، على ثقل من نفسه، وتنغيص وتكدير من عيشه، وجهد من قلبه؛ ومن راضها وأدبها استقامت في السير، وانفطمت عن أخلاقها، وتداركه ربه بالنصر والمدد، وأنجز له الوعد: فقد بين هذا الشأن في آيتين من كتابه، فقال: (وجاهدوا في الله حق جهاده) فأمر بمجاهدة النفس، وفطمها عن أخلاق السوء، عن أن يريد غير ما يريد الرب جل وعلا، فلو تركنا في جميع أعمارنا لكان، هذا أمراً هائلاً عظيما، لكنه وعد في آية أخرى أن يخلصنا من وباله، ويؤدبنا ويبصرنا، فقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين). فهو هاديك، وهو معك في النصر والتأييد، فرحمته منك قريب، ممن يقويك ومن يدركك.
وإنما الشأن أن تجاهدوا في بدء أمرك حق جهاده، فإذا أنت قد ظفرت بالوعد الثاني قد أنجزه لك، فإذا هداك السبيل ملأ قلبك نوراً وكلاءة ورعاية حتى لا تزيغ، فهو المنيب، المقبل على ربه، القابل لأمره بالهشاشة والسرعة، ألا ترى إلى قول الرسل الذين مضوا عليهم السلام حكى عنهم الرب تبارك وتعالى، حيث قالوا: (ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا). والتوكل هو أن تفوض أمرك إلى ربك، ثم ترضي بما يصنع بك، فعلموا في قلوبهم أنهم إنما قووا على ذلك بما هداهم الله لسبيله. ومما يحقق ما قلنا في شأن الراضي والصابر، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي
الله عنهما: (فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا واليقين، فأفعل، فإن لم تستطع فأصبر، فإن الصبر على ما تكره خير كثير. واعلم أن مع العسر يسرا، ومع الكرب فرجاً). حدثنا بذلك علي بن حجر، قال حدثنا بذلك
إسماعيل بن عياش وعيسى بن يونس، قالا: حدثنا عمر مولى غفرة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزلتين في هذا الحديث.
واعلم أن الصابر عاجز عن مقام الراضي، وأن الراضي باليقين أدرك ذلك، لأنه عاين عواقب الأمور، وذلك بمنزلة رجل كان له كيس من دراهم، افتقده من حيث وضعه، وهو لا يملك شيئاً سواه، فثار في رأسه كالثيران، من شدة الوجد لفقده، حتى تبين ذلك في أحواله وفي وجهه، وظهر اغتمامه بذلك، فقال له رجل ملئ وفي بر صدوق: أنا أعطيك رأس السنة بدل كل درهم ديناراً؛ فسكن إلى قوله، وسكن بعض ما به من الوجد، فلا يخلو من الاغتمام، ويضيق صدره بمضي هذه المدة، فهو يصبر على كره، إلا أنه مازج ما أطمع فيه، الوجد الذي في نفسه، فخف ما به وهو كاره صابر؛ ورجل آخر افتقد كيساً من دراهم، وفي ملكه ملء بيوت من جواهر، كل جوهر لا يدري ما قيمته فما يتبين عليه فقد ذلك الكيس، ولا يبالي به، وهو في ذلك كالذي افتقد
فلساً وعنده كيس من دراهم. فالأول هو غنى بالمال، والثاني غنى بربه ومليكه، فالأول فرح بالمال والأحوال، والثاني فرح بالله، ثم بفضله ورحمته، عامة ملجئه ومفزعه إلى الله عز وجل، فالأول قلبه مأسور بالأشياء، قد ملكته حلاوة الأشياء، والثاني سكن قلبه حلاوة قرب الله عز وجل، فالأول قلبه بالأشياء، وبالأشياء تعلقه؛ والثاني مشتغل بالله وإليه منيب، وبه متعلق.
ومما يحقق عندنا حال هذا الثاني، ما أتت به الأخبار عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وعن السلف الصالح من بعده، حدثونا به عن ابن المبارك، عن صالح المري، عن حبيب أبي محمد، وهو العجمي رحمه الله، عن شهر بن حوشب، عن أبي ذر رضي الله عنه ولم يرفعه؛ وأما غير ابن مبارك فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول الله تبارك وتعالى لجبريل عليه السلام: يا جبريل، انسخ من قلب العبد الحلاوة التي كان يجدها بي، فينسخها من قلبه، فيصير العبد والهاً.

فإن اعترض في هذا القول معترض بالإنكار، وقال هذا غير موجود في الأنبياء والرسل عليهم السلام، فقد جاءنا عنهم أنهم كانوا يبكون في المصائب، ويحزنون عليها، ويجدون ألم الأشياء المكروهة، ويفرحون في المحبوب. فيقال له: يا عاجز، وما يدريك ن أي شيء بكت الرسل وحزنت؟ وكيف كان همهم في المكاره؟ وكيف كان فرحهم؟ ومن أي شيء ففرحوا؟ فرب فرح محمود، وعلى ذلك حب الله عباده؛ ورب حزن ممدوح أهله في الدنيا والآخرة، ونطق الكتاب بالثناء عليهم، والبكاء على سبعة أنواع، فما فوقها، كل نوع منها من شيء غير الآخر، فهل ميزت بين هذه الأشياء، وهل اطلعت مطلع هذه المنازل؟ أم أنت رجل تبعت شيئاً من هذا العلم تفخر به، وترأست به، فأنت تريد أن تطفئ نور الله بفيك، وتنسب الرسل إلى ما لم يأذن به الله، وتحير الخلق في سبيل الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون والكافرون.
فإما فرح المتقين فبفضل الله ورحمته، وعلى ذلك دلّ عباده، وأما فرح الأنبياء والصديقين فبه تبارك اسمه،
ولذلك روى لنا عن مالك بن دينار رحمه الله، قال: قرأت في بعض الكتب: يا معشر الصديقين، تنعموا بذكري، فإن ذكري لكم في الدنيا نعيم، وفي الآخرة جزاء. وقال في حديث آخر: (آثرتموني على شهواتكم، ورضيتم بي بدلاً من خلقي، فبي فافرحوا، وبذكرى فتنعموا، فوعزتي ما خلقت
الجنان إلا من أجلكم. وحدثنا عبد الرحيم عن حبيب الفارياني، في حديث له ذكره عن حبيب العجمي رحمه الله، أنه كان يقول (ما) تفسيره: يا رب فرحت حتى كدت أموت من الفرح، مثلك لي رب وأنا عبدك: (خدايا عجب است ممكن إزشادي بميرم كه مراجو توخدائي)، وأما بكاؤهم فكانت الأنبياء عليهم السلام أرحم البرية، فكلما ازداد العبد من الله تعالى قربه، كانت له من الرحمة أكثر. وكذلك روى عن ابن المبارك، عن عبيد بن عمير، قال ما ازداد العبد من الله تعالى قربه، إلا كان له من الرحمة ما ليس لغيره. حدثنا بذلك الجارود بن معاذ
رحمه الله، عن علي وعمير بن عبد الله، فكانوا في المصائب يرحمون، فيبكون ما يرون، وكانوا أعلم الناس بالموت، وكنه مرارته، وعظيم شأنه، وخطر المقدم على الله عز وجل. فكانت قلوبهم ترق لما يرون، ألا ترى أنه قال في حديث إبراهيم لابنه: (إنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم). فكان يبكي، ويعدّ ذلك رحمة ويحتسب بذلك البكاء على الله عز وجل؛ ألا ترى أنه عاب من لا يرحم، فكانت تلك منه رقة، ومن هؤلاء القوم فتنة وصبابة. وكذلك وجدنا الخبر عن الحزن يعقوب عليه السلام، أنه قال ليوسف عليه السلام: يا بني، إنما حزنت عليك مخافة. وأيضاً من طرق آخر قد يجوز أن يكون الله سبحانه إذ جعلهم أئمة الخلق، هيج منهم أشياء، ليكون لمن بعدهم بذلك اعتبار.
وفي هذا كلام إلى غاية الطول، قد بيناه في كتاب (صفة القلوب وأحوالها، هيئة تركيبها) وما يتردد في النفس في صدور القلوب.