المسلمون.. والتبعات الجسام
بقلم: د. توفيق الواعي
الفرد المسلم في أوقات الكفاح غيره في أوقات السلم، وفي أوقات الخديعة غيره في أوقات سلامة الطوية، فهو في أوقات الكفاح قوي العزيمة، شديد المِراس، يقظ الفكر، دائب النهار، ساهر الليل، مفتَح العين، نابه البصيرة، يعي عِبر الزمان وحوادث الأيام، عقله يسبق أعوامه، وتدبيره يتقدم أيامه، فالفرد المسلم المجاهد شخص قد أعد عدته، وأخذ أهبته، وملكت عليه فكرته نواحي نفسه، وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير.. دائم الاهتمام.. على قدم الاستعداد دائمًا، إذا دُعي أجاب، وإن نودي لبَى، غدوَه ورواحه، وحديثه وكلامه، وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم به قلبه، من جوى لاصق، وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة، وهمة عالية، وغاية بعيدة.. ذلك شأن المجاهدين من الأفراد والأمم.
ترى ذلك جليًّا في الأمة التي أعدت نفسها للجهاد، والأفراد الذين وطَنوا أنفسهم على الكفاح.
أما المجاهد الذي ينام ملء عينيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه، ويقضي وقته لاهيًا عابثًا ماجنًا.. فهيهات أن يكون من الفائزين، أو يُكتب في عداد المجاهدين!!.
إن ثقل التبعات، وعِظم المسئوليات، وكثرة الأعداء، يُلزم المخلصين بالجد، ويفرض عليهم العمل الدءوب، والنضال المتواصل، وشحذ العقول والأفهام، وحساب الخطى والأعمال، ورسم الخطوط والاتجاهات، ورصد الرياح والعداوات، ووزن الدروس والعِبَر، وتقدير العواقب والنتائج، وكل ذلك يلزمه إعداد اللبنات، وتجهيز النفوس، وتزكية العقول، وهذا عمل ليس بالهين، وفعل ليس باليسير؛ لأن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ.
فقد يسهل على الكثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يُستطاع تصويره أقوالاً باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلين من هذا الكثير يثبتون عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيعون أن يعملوا، وقليل منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل العنيف، ورحم الله الإمام البنا إذ يقول: "إن رجل القول غير رجل العمل، ورجل العمل غير رجل الجهاد، ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات، وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله، ولكن المؤمن يكون دائمًا واثقًا بنصر الله وتأييده ما دام على الطريق ويسير على الجادة، تتخايل دائمًا في نفسه أطياف النصر، وتتراءى له في كل وقت بشائر الفوز، في ساعات اليسر وفي حالات العسر"، وصدق الله: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 22- 23)، في عزائمهم بصائر، وفي أبصارهم نور الله، وفي عقولهم همم، وفي صدورهم إيمان، لا يرهبون الأعداء مهما كثر عددهم، ولا الجيوش وإن تعددت كتائبهم، ولا يخافون الموت، بل يطلبونه، ما دام ذلك في سبيل الله سبحانه لأنهم يعلمون ما في الشهادة من نصر وأجر، وما في الموت من حياة وعز، يعمق أساس الدعوات، ويقوي عمد المبادئ، لا تدانيها ألف خطبة وخطبة، أو مقالة ورسالة، في إلهاب حماس القلوب، وإثارة كوامن المشاعر؛ لأن كلمات الدعاة تظل عرائس من الشمع حتى إذا استشهدوا في سبيلها دبت فيها الروح، وجرت فيها الدماء، وكُتبت لها الحياة، وسُطرت في صفحات الخلود.
فالمجاهد، لا يتربى في أحضان الملاهي، ولا في غمار الشهوات، ولا بين الجداول والخلجان وسط الأزهار والرياحين، ولا بين الكواعب الحسان والغيد الملاح، ولا في وسط المترفين واللاهين والخانعين والكسالى، وإنما تربيه الحوادث والشدائد، وتصوغه الكوارث والنكبات، وتعلمه الأيام والليالي، وتدربه الدروس والعبر، وتعملقه الخطوب والمعارك، والإقدام والإحجام، والكر والفر، ذلك الذي يعطيه لقب المجاهد، ويقلده شارة الكفاح، ويؤهله للفوز والنصر والفلاح.
كم خرَّجت السجون والمعتقلات رجالاً أصلب من الحديد، وأقوى من الفولاذ، وأرسخ من الجبال، وأشمخ من الشم الرواسي، وكم صهر الكفاح المرير عزائم ونفوسًا وعقولاً وسواعد، طهرت الرجس السائد، والظلم القائم، والجهالة المتسلطة، كم طردت من مستعمر، وأخرجت من دخيل، ونحَت من عميل، وشردت من عابث، وكانت موئلاً للبلاد، وملاذًا للشعوب، وأملاً للأمم، ومنارات على طريق الحضارات، وروادًا على درب التقدم والازدهار. وكم أضاع البلاد، وجلب النكبات رجال باعوا أنفسهم لشهواتهم أو لأعدائهم وشياطينهم، فكانت تفزعهم الصيحة، وترعبهم الإشارة والشائعة، وتهدَمهم وتقعدهم الطبول الجوفاء، والجلبة الخرقاء، فصاروا صورًا للجبن والانزواء والهلع في ساعات الشدة، وقد كانوا في الرخاء في قمة الانتفاش، وسلاطة اللسان، وحسن البذة والشارة والهِندام، وقد عبَر القرآن الكريم عن هذا أصدق تعبير حين قال: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) (الأحزاب: 19)، وهذا الصنف وذلك النموذج من الناس هم علة الأمم، لا ينقطع في كل جيل، شجاع وفصيح ومنتفش عند الرخاء والعَرض والمنصب، وهزيل خوَار جبان منزوٍ عند الشدة والكفاح.
أما الفرد المسلم المجاهد، والصادق المؤمن المكافح، فإنه مستمسك بالعروة الوثقى، متشبث بها عند الكبوات، متوكل على الله عند الملمات، يتخذ من الزلازل عزمًا، ومن الشدائد بشائر ونصرًا فيثبت ويطمئن، ويقوى ويستقر، ويعرف أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، وأن مع الضيق فرجًا، وأن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، فهو هو رجل الملمات الجسام في أمة المجد، وأمة الخلود، الذي يرفع الكرب، ويزيل القنوط، ويمنع السقوط، ويجدد الأمل ليفرح المؤمنون بنصر الله.. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
الأحد، 6 يناير 2013
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق