العبودية المطلقة لله
وحده هي الشطر الأول لركن الإسلام الأول، فهي
المدلول المطابق لشهادة أن لا
اله إلا الله، والتلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم هو الشطر الثاني لهذا الركن، فهو
المدلول المطابق لشهادة أن
محمداً رسول الله -كما جاء في هذا الفصل: لا اله إلا الله منهج حياة..
والعبودية المطلقة لله وحده تتمثل في اتخاذ الله وحده
إلهاً.. عقيدة وعبادة وشريعة.. فلا يعتقد المسلم أن الألوهية تكون لأحد غير
الله- سبحانه- ولا يعتقد أن العبادة تكون لغيره من خلقه، ولا يعتقد أن الحاكمية
تكون لأحد من عباده.. كما جاء في ذلك الفصل أيضاً.
ولقد أوضحنا هناك مدلول العبودية والاعتقاد والشعائر
والحاكمية، وفي هذا الفصل نوضح مدلول الحاكمية
وعلاقته بالثقافة.
إن مدلول الحاكمية في التصور الإسلامي لا ينحصر في تلقي
الشرائع القانونية من الله وحده. والتحاكم إليها وحدها . والحكم بها دون سواها
.. أن مدلول الشريعة في الإسلام لا ينحصر في التشريعات القانونية، ولا حتى في
أصول الحكم ونظامه وأوضاعه. إن هذا المدلول الضيق لا يمثل مدلول الشريعة والتصور
الإسلامي!
إن شريعة الله تعني ما شرعه الله لتنظيم الحياة
البشرية.. وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول
السلوك، وأصول المعرفة أيضاً.
يتمثل في الاعتقاد والتصور -بكل مقومات هذا التصور-
تصور حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وغيبه وشهوده، وحقيقة الحياة، غيبها
وشهودها، وحقيقة الإنسان، والارتباطات بين هذه الحقائق كلها، وتعامل الإنسان
معها.
ويتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية،
والأصول التي تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده.
ويتمثل في التشريعات القانونية، التي تنظم هذه الأوضاع
. وهو ما يطلق عليه اسم الشريعة غالباً بمعناها الضيق الذي لا يمثل حقيقة
مدلولها في التصور الإسلامي .
ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك، في القيم والموازين
التي تسود المجتمع، ويقوم بها الأشخاص والأشياء والأحداث في الحياة الاجتماعية.
ثم.. يتمثل في المعرفة بكل جوانبها، وفي أصول النشاط
الفكري والفني جملة.
وفي هذا كله لابد من التلقي عن الله، كالتلقي في
الأحكام الشرعية- بمدلولها الضيق المتدأول- سواء بسواء..
والأمر في الحاكمية -في مدلولها المختص بالحكم
والقانون-قد يكون الان مفهوماً بعد الذي سقناه بشأنه من تقريرات.
والأمر في قواعد الأخلاق والسلوك، وفي القيم والموازين
التي تسود المجتمع، قد يكون مفهوماً كذلك إلى حد ما! إذ إن القيم والموازين
وقواعد الأخلاق والسلوك التي تسود في مجتمع ما ترجع مباشرة إلى التصور الاعتقادي
السائد في هذا المجتمع، وتتلقى من ذات المصدر الذي تتلقى منه حقائق العقيدة التي
يتكيف بها ذلك التصور.
أما الأمر الذي قد يكون غريباً- حتى على قراء مثل هذه
البحوث الإسلامية!- فهو الرجوع في شأن النشاط الفكري والفني إلى التصور الإسلامي
والى مصدره الرباني.
وفي النشاط الفني صدر كتاب كامل يتضمن بيان هذه القضية
باعتبار ان النشاط الفني كله، وهو تعبير إنساني عن تصورات الإنسان وانفعالاته
واستجاباته، وعن صور الوجود والحياة في نفس إنسانية.. وهذه كلها يحكمها -بل
ينشئها- في النفس المسلمة تصورها الإسلامي بشموله لكل جوانب الكون والنفس
والحياة، وعلاقتها ببارئ الكون والنفس والحياة! وبتصورها خاصة لحقيقة هذا
الإنسان، ومركزه في الكون، وغاية وجوده، ووظيفته، وقيم حياته..وكلها متضمنة في
التصور الاسلامي، الذي ليس هو مجرد تصور فكري. إنما هو تصور اعتقادي حي موح مؤثر
فعال دافع مسيطر على كل انبعاث في الكيان الإنساني.
فأما قضية النشاط الفكري، وضرورة رد هذا النشاط إلى
التصور الإسلامي ومصدره الرباني، تحقيقاً للعبودية الكاملة لله وحده، فهذه هي
القضية التي تقتضي منا بياناً كاملاً لأنها قد تكون بالقياس إلى قرَاء هذا
البيان -حتى المسلمين منهم الذين يرون حتمية رد الحاكمية والتشريع لله وحده-
غريبة أو غير مطروقة!
***
إن المسلم لا يملك أن يتلقى في أمر يختص بحقائق
العقيدة، أو التصور العام للوجود، أو يختص بالعبادة، أو يختص بالخلق والسلوك، والقيم الموازين، أو
يختص بالمبادئ والأصول في النظام السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو يختص
بتفسير بواعث النشاط الإنساني وبحركة التاريخ الإنساني.. إلا من ذلك المصدر
الرباني، ولا يتلقى في هذا كله إلا عن مسلم يثق في دينه وتقواه، ومزأولته
لعقيدته في واقع الحياة.
ولكن المسلم يملك أن يتلقى في العلوم البحتة،
كالكيمياء، والطبيعة، والأحياء، والفلك، والطب، والصناعة، والزراعة، وطرق
الإدارة - من الناحية الفنية الإدارية البحتة - وطرق العمل الفنية، وطرق الحرب
والقتال - من الجانب الفني- إلى آخر ما يشبه هذا النشاط.. يملك أن يتلقى في هذا
كله عن المسلم وغير المسلم.. وان كان الأصل في المجتمع المسلم حين يقوم، ان يسعى
لتوفير هذه الكفايات في هذه الحقول كلها، باعتبارها فروض كفاية، يجب أن يتخصص
فيها أفراد منه. وإلا أثم المجتمع كله إذا لم يوفر هذه الكفايات، ولم يوفر لها
الجو الذي تتكون فيه وتعيش وتعمل وتنتج.. ولكن الى ان يتحقق هذا فان للفرد
المسلم أن يتلقى في هذه العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية من المسلم وغير
المسلم، وان ينتفع فيها بجهد المسلم وغير المسلم، وان يشغل فيها المسلم وغير
المسلم.. لأنها من الأمور الداخلة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتم
اعلم بأمور دنياكم.. وهي لا تتعلق بتكوين تصور المسلم عن الحياة والكون ، وغاية
وجوده، وحقيقة وظيفته، ونوع ارتباطاته بالوجود من حوله، بخالق الوجود كله، ولا
تتعلق بالمبادئ والشرائع والأنظمة والأوضاع التي تنظم حياته أفراداً وجماعات،
ولا تتعلق بالأخلاق والآداب والتقاليد والعادات والقيم والموازين التي تسود
مجتمعه وتؤلف ملامح هذا المجتمع.. ومن ثم فلا خطر فيها من زيغ عقيدته، أو
ارتداده إلى الجاهلية!
فأما ما يتعلق بتفسير النشاط الإنساني كله أفراداً أو
مجتمعات، وهو التعلق بالنظرة إلى نفس الإنسان والى حركة تاريخه وما يختص بتفسير
نشأة هذا الكون، ونشأة الحياة، ونشأة هذا الإنسان ذاته- من ناحية ما وراء
الطبيعة - (وهو ما لا تتعلق به العلوم البحتة من كيمياء وطبيعة وفلك وطب.. الخ)
فالشان فيه، شان الشرائع القانونية والمبادئ والأصول التي تنظم حياته ونشاطه،
مرتبط بالعقيدة ارتباطاً مباشراً، فلا يجوز للمسلم أن يتلقى فيه إلا عن مسلم،
يثق في دينه وتقواه، ويعلم عنه انه يتلقى في هذا كله عن الله.. والمهم أن يرتبط
هذا في حس المسلم بعقيدته، وان يعلم أن هذا مقتضى عبوديته لله وحده، أو مقتضى
شهادته: أن لا إله إلا الله، وان محمداً رسول الله.
انه قد يَطَّلِع على كل آثار النشاط الجاهلي. ولكن لا
لِيًكِّون منه تصوره ومعرفته في هذه الشؤون كلها، إنما ليعرف كيف تنحرف
الجاهلية! وليعرف كيف يصحح ويقوَم هذه الانحرافات البشرية، بردها إلى أصولها
الصحيحة في مقومات التصور الإسلامي، وحقائق العقيدة الإسلامية.
إن اتجاهات الفلسفة بجملتها، واتجاهات تفسير التاريخ
الإنساني بجملتها، واتجاهات علم النفس بجملتها -عدا الملاحظات والمشاهدات دون
التفسيرات العامة لها- ومباحث الأخلاق بجملتها، واتجاهات التفسيرات والمذاهب
الاجتماعية بجملتها - فيما عدا المشاهدات والإحصائيات والمعلومات المباشرة، لا
النتائج العامة المستخلصة منها ولا التوجيهات الكلية الناشئة عنها -.. إن هذه
الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي - أي غير الإسلامي- قديماً وحديثاً، متأثرة
تأثراً مباشراً بتصورات اعتقادية جاهلية، وقائمة على هذه التصورات، ومعظمها -ان
لم يكن كلها- يتضمن في أصوله المنهجية عداءً ظاهراً أو خفياً للتصور الديني
جملة، وللتصور الإسلامي على وجه خاص!
والأمر في هذه الألوان من النشاط الفكري -والعلمي!-
ليس كالأمر في علوم الكيمياء والطبيعة والفلك والأحياء والطب، وما إليها - ما
دامت هذه في حدود التجربة الواقعية وتسجيل النتائج الواقعية، دون أن تجاوز هذه
الحدود إلى التفسير الفلسفي في صورة من صوره، وذلك كتجاوز الداروينية مثلاً
لمجال إثبات المشاهدات وترتيبها في علم الأحياء، إلى مجال القول - بغير دليل
وبغير حاجة للقول كذلك إلا الرغبة والهوى- انه لا ضرورة لافتراض وجود قوة خارجة
عن العالم الطبيعي لتفسير نشأة الحياة وتطورها.
إن لدى المسلم الكفاية من بيان ربه الصادق عن تلك
الشؤون، وفي المستوى الذي تبدو فيه محأولات البشر في هذه المجالات هزيلة
ومضحكة.. فضلاً عن أن الأمر يتعلق تعلقاً مباشراً بالعقيدة، وبالعبودية الكاملة
لله وحده.
إن حكاية أن الثقافة تراث إنساني لا وطن له ولا جنس
ولا دين.. هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية - دون
أن تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية الميتافيزيقية لنتائج هذه العلوم،
ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعورية جميعاً. ولكنها فيما وراء ذلك إحدى
مصايد اليهود العالمية، التي يهمها تمييع الحواجز كلها - بما في ذلك، بل في أول
ذلك حواجز العقيدة والتصور- لكي ينفذ اليهود إلى جسم العالم كله، وهو مسترخ
مخدر، يزاول اليهود فيه نشاطهم الشيطاني، وفي أوله نشاطهم الربوي، الذي ينتهي
إلى جعل حصيلة كد البشرية كلها، تؤول إلى أصحاب المؤسسات المالية الربوية من اليهود!
ولكن الإسلام يعتبر أن هناك - فيما وراء العلوم البحتة
وتطبيقاتها العملية- نوعين اثنين من الثقافة: الثقافة الإسلامية القائمة على
قواعد التصور الإسلامي، والثقافة الجاهلية القائمة على مناهج شتى ترجع كلها إلى
قاعدة واحدة.. قاعدة إقامة الفكر البشري إلهاً لا يرجع إلى الله في ميزانه.
والثقافة الإسلامية شاملة لكل حقول النشاط الفكري الواقعي الإنساني، وفيها من
القواعد والمناهج والخصائص ما يكفل نمو هذا النشاط وحيويته دائماً.
ويكفي أن نعلم أن الاتجاه التجريبي، الذي قامت عليه
الحضارة الصناعية الأوروبية الحاضرة، لم ينشأ في أوروبا، وإنما نشأ في الجامعات
الإسلامية في الأندلس والمشرق، مستمداً أصوله من التصور الإسلامي وتوجيهاته، إلى
الكون وطبيعته الواقعية، ومدخراته وأقواته.. ثم استقلت النهضة العلمية في أوروبا
بهذا المنهج، واستمرت تنميه وترقيه، بينما ركد وترك نهائياً في العالم الإسلامي
بسبب بعد هذا العالم تدريجياً عن الإسلام، بفعل عوامل بعضها يتمثل في الهجوم
عليه من العالم الصليبي والصهيوني… ثم قطعت أوروبا ما بين المنهج الذي اقتبسته
وبين أصوله الاعتقادية الاسلامية، وشردت به نهائياً بعيداً عن الله، في أثناء
شرودها عن الكنيسة، التي كانت تستطيل على الناس -بغياً وعدواً باسم الله !
وكذلك أصبح نتاج الفكر الأوروبي بجملته -شأنه شأن
إنتاج الفكر الجاهلي في جميع الأزمان في جميع البقاع- شيئاً آخر، ذا طبيعة
مختلفة من أساسها عن مقومات التصور الإسلامي. ومعادية في الوقت ذاته عداء أصيلاً
للتصور الإسلامي.. ووجب على المسلم أن يرجع إلى مقومات تصوره وحدها، وألا يأخذ
إلا من المصدر الرباني إن استطاع بنفسه، وإلا فلا يأخذ إلا عن مسلم تقي، يعلم عن
دينه وتقواه ما يطمئنه إلى الأخذ عنه.
إن حكاية فصل العلم عن صاحب العلم لا يعرفها الإسلام فيما يختص بكل العلوم المتعلقة بمفهومات العقيدة المؤثرة في نظرة الإنسان إلى الوجود والحياة والنشاط الإنساني، والأوضاع، والقيم، والأخلاق، والعادات، وسائر ما يتعلق بنفس الإنسان ونشاطه من هذه النواحي.
إن الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم عن غير المسلم، أو
عن غير التقي من المسلمين، في علم الكيمياء البحتة، أو الطبيعة، أو الفلك، أو
الطب، أو الصناعة، أو الزراعة، أو الأعمال الإدارية والكتابية.. وأمثالها. وذلك
في الحالات التي لا يجد فيها مسلماً تقياً يأخذ عنه في هذا كله، كما هو واقع من
يسمون أنفسهم المسلمين اليوم، الناشئ من بعدهم عن دينهم ومنهجهم وعن التصور
الإسلامي لمقتضيات الخلافة في الأرض -بإذن الله- وما يلزم لهذه الخلافة من هذه
العلوم والخبرات والمهارات المختلفة.. ولكنه لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته،
ولا مقومات تصوره، ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه، ولا منهج تاريخه وتفسير
نشاطه، ولا مذهب مجتمعه، ولا نظام حكمه، ولا منهج سياسته، ولا موجبات فنه وأدبه
وتعبيره… الخ، من مصادر غير إسلامية، ولا أن يتلقى عن غير مسلم يثق في دينه
وتقواه في شيء من هذا كله.
إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة
كاملة. كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة
الإنسانية.. ما هو من تخصصه وما هو من هواياته.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته
وتصوره. فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلا ًضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم -وما
كان يمكن أن يكون إلا كذلك- وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره. فإنما
عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها وعلى قزامتها… وعلى
جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وأدائها كذلك!!! وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن
يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي!!!
ومع ذلك فليس الذي سبق في هذه الفقرة رأياً لي أبديه..
إن الأمر أكبر من أن يفتى فيه بالرأي.. إنه أثقل في ميزان الله من أن يعتمد
المسلم فيه على رأيه، إنما هو قول الله-سبحانه- وقول نبيه صلى الله عليه وسلم..
نحكمه في هذا الشان، ونرجع فيه إلى الله والرسول ، كما يرجع الذين آمنوا إلى
الله والرسول فيما يختلفون فيه.
يقول الله-سبحانه- عن الهدف النهائي لليهود والنصارى
في شأن المسلمين بصفة عامة:
{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد
إيمانكم كفاراً، حسداً من عند أنفسهم، من بعد ما تبين لهم الحق، فاعفوا واصفحوا
حتى يأتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير}… [البقرة: 109]
{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع
ملتهم. قل: إن هدى الله هو الهدى. ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم،
ما لك من الله من ولي ولا نصير}… [ البقرة: 120]
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من
الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين}… [آل عمران: 100]
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فيما رواه
الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر -رضي الله عنهم:
لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد
ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وانه والله لو كان موسى
حياً ما حل له أن يتبعني
وحين يتحدد الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن
المسلمين على ذلك النحو القاطع الذي يقرره الله سبحانه، يكون من البلاهة الظن
لحظة بأنهم يصدرون عن نية طيبة في أي مبحث من المباحث المتعلقة بالعقيدة
الإسلامية، أو التاريخ الاسلامي، أو التوجيه في نظام المجتمع المسلم، أو في
سياسته أو في اقتصاده، أو يقصدون إلى خير، أو إلى هدى، أو إلى نور… والذين يظنون
ذلك فيما عند هؤلاء الناس -بعد تقرير الله سبحانه- إنما هم الغافلون!
كذلك يتحدد من قول الله سبحانه: {قل: إن هدى الله هو
الهدى} .. المصدر الوحيد الذي يجب على المسلم الرجوع إليه في هذه الشؤون، فليس
وراء هدى الله إلا الضلال، وليس في غيره هدى، كما تفيد صيغة القصر الواردة في
النص: قل: إن هدى الله هو الهدى… ولا سبيل إلى الشك في مدلول هذا النص، ولا إلى
تأويله كذلك!
كذلك يرد الأمر القاطع بالإعراض عمن يتولى عن ذكر
الله، ويقصر اهتمامه على شؤون الحياة الدنيا، وينص على أن مثل هذا لا يعلم إلا
ظناً، والمسلم منهي عن اتباع الظن، وانه لا يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا،
فهو لا يعلم علماً صحيحاً.
{ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا، ولم يرد إلا الحياة
الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن
اهتدى }. [ النجم: 29-30]
{ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم
غافلون }.. [ الروم:7]
والذي يغفل عن ذكر الله، ولا يريد إلا الحياة الدنيا
-وهو شأن جميع العلماء! اليوم- لا يعلم إلا هذا الظاهر، وليس هذا هو العلم الذي
يثق المسلم في صاحبه فيتلقى عنه في كل شأنه، إنما يجوز أن يتلقى عنه في حدود
علمه المادي البحت، ولا يتلقى منه تفسيراً ولا تأويلاً عاماً للحياة، أو النفس، أو
متعلقاتها التصويرية.. كما انه ليس هو العلم الذي تشير إليه الآيات القرآنية وتثني
عليه، كقوله تعلى:هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ كما يفهم الذين
ينتزعون النصوص القرآنية من سياقها ليشهدوا بها في غير مواضعها؟ فهذا السؤال
التقريري وارد في آية هذا نصها الكامل :
{ أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر
الآخرة ويرجو رحمة ربه؟ قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر
أولو الألباب }.. [ الزمر: 9]
فهذا القانت آناء الليل ، ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة
ويرجو رحمة ربه.. هو الذي يعلم.. وهذا هو العلم.. الذي تشير إليه الآية ، العلم
الذي يهدي إلى الله وتقواه.. لا العلم الذي يفسد الفطر فتلحد في الله!
إن العلم ليس مقصوراً على علم العقيدة والفرائض
الدينية والشرائع.. فالعلم يشتمل على كل شيء، ويتعلق بالقوانين الطبيعية..
وتسخيرها في خلافة الأرض تعلقه بالعقيدة والفرائض والشرائع.. لكن العلم الذي
ينقطع عن قاعدته الإيمانية ليس هو العلم الذي يعنيه القرآن ويثني على أهله.. إن
هناك ارتباطاً بين القاعدة الإيمانية وعلم الفلك، وعلم الأحياء، وعلم الطبيعة،
وعلم الكيمياء، وعلم طبقات الأرض..وسائر العلوم المتعلقة بالنواميس الكونية،
والقوانين الحيوية. إنها كلها تؤدي إلى الله، حين لا يستخدمها الهوى المنحرف
للابتعاد عن الله.. كما اتجه المنهج الأوروبي في النهضة العلمية-مع الأسف- بسبب
تلك الملابسات النكدة التي قامت في التاريخ الأوروبي خاصة، بين المشتغلين بالعلم
وبين الكنيسة الغاشمة! ثم ترك آثاره العميقة في مناهج الفكر الأوروبي كلها، وفي
طبيعة التفكير الأوروبي، وترك تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور الديني
جملة -لا لأصل التصور الكنيسي وحده ولا للكنيسة وحدها- في كل ما أنتجه الفكر الأوروبي،
في كل حقل من حقول المعرفة، سواء كانت فلسفة ميتافيزيقية، أو كانت بحوثاً علمية
بحتة لا علاقة لها -في الظاهر- بالموضوع الديني!
وإذا تقرر أن مناهج الفكر الغربي، ونتاج هذا الفكر في
كل حقول المعرفة، يقوم ابتداء على أساس تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور
الديني جملة، فإن تلك المناهج وهذا النتاج أشد عداءً للتصور الإسلامي خاصة، لأنه
يعتمد هذا العداء بصفة خاصة، ويتحرى في حالات كثيرة -في خطة متعمدة- تمييع
العقيدة والتصور والمفهومات الإسلامية، ثم تحطيم الأسس التي يقوم عليها تميز
المجتمع المسلم في كل مقوماته.
ومن ثم يكون من الغفلة المزرية الاعتماد على مناهج
الفكر الغربي، وعلى نتاجه كذلك، في الدراسات الإسلامية.. ومن ثم تجب الحيطة كذلك
في أثناء دراسة العلوم البحتة -التي لابد لنا في موقفنا الحاضر من تلقيها من
مصادرها الغربية- من أية ظلال فلسفية تتعلق بها، لأن هذه الظلال معادية في
أساسها للتصور الديني جملة، وللتصور الإسلامي بصفة خاصة. وأي قدر منها يكفي
لتسميم الينبوع الإسلامي الصافي…
|
الجمعة، 25 يناير 2013
التصور الإسلامي والثقافة / من كتاب معالم في الطريق للشهيد سيد قطب
الأحد، 6 يناير 2013
المسلمون.. والتبعات الجسام
المسلمون.. والتبعات الجسام
بقلم: د. توفيق الواعي
الفرد المسلم في أوقات الكفاح غيره في أوقات السلم، وفي أوقات الخديعة غيره في أوقات سلامة الطوية، فهو في أوقات الكفاح قوي العزيمة، شديد المِراس، يقظ الفكر، دائب النهار، ساهر الليل، مفتَح العين، نابه البصيرة، يعي عِبر الزمان وحوادث الأيام، عقله يسبق أعوامه، وتدبيره يتقدم أيامه، فالفرد المسلم المجاهد شخص قد أعد عدته، وأخذ أهبته، وملكت عليه فكرته نواحي نفسه، وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير.. دائم الاهتمام.. على قدم الاستعداد دائمًا، إذا دُعي أجاب، وإن نودي لبَى، غدوَه ورواحه، وحديثه وكلامه، وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم به قلبه، من جوى لاصق، وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة، وهمة عالية، وغاية بعيدة.. ذلك شأن المجاهدين من الأفراد والأمم.
ترى ذلك جليًّا في الأمة التي أعدت نفسها للجهاد، والأفراد الذين وطَنوا أنفسهم على الكفاح.
أما المجاهد الذي ينام ملء عينيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه، ويقضي وقته لاهيًا عابثًا ماجنًا.. فهيهات أن يكون من الفائزين، أو يُكتب في عداد المجاهدين!!.
إن ثقل التبعات، وعِظم المسئوليات، وكثرة الأعداء، يُلزم المخلصين بالجد، ويفرض عليهم العمل الدءوب، والنضال المتواصل، وشحذ العقول والأفهام، وحساب الخطى والأعمال، ورسم الخطوط والاتجاهات، ورصد الرياح والعداوات، ووزن الدروس والعِبَر، وتقدير العواقب والنتائج، وكل ذلك يلزمه إعداد اللبنات، وتجهيز النفوس، وتزكية العقول، وهذا عمل ليس بالهين، وفعل ليس باليسير؛ لأن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ.
فقد يسهل على الكثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يُستطاع تصويره أقوالاً باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلين من هذا الكثير يثبتون عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيعون أن يعملوا، وقليل منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل العنيف، ورحم الله الإمام البنا إذ يقول: "إن رجل القول غير رجل العمل، ورجل العمل غير رجل الجهاد، ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات، وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله، ولكن المؤمن يكون دائمًا واثقًا بنصر الله وتأييده ما دام على الطريق ويسير على الجادة، تتخايل دائمًا في نفسه أطياف النصر، وتتراءى له في كل وقت بشائر الفوز، في ساعات اليسر وفي حالات العسر"، وصدق الله: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 22- 23)، في عزائمهم بصائر، وفي أبصارهم نور الله، وفي عقولهم همم، وفي صدورهم إيمان، لا يرهبون الأعداء مهما كثر عددهم، ولا الجيوش وإن تعددت كتائبهم، ولا يخافون الموت، بل يطلبونه، ما دام ذلك في سبيل الله سبحانه لأنهم يعلمون ما في الشهادة من نصر وأجر، وما في الموت من حياة وعز، يعمق أساس الدعوات، ويقوي عمد المبادئ، لا تدانيها ألف خطبة وخطبة، أو مقالة ورسالة، في إلهاب حماس القلوب، وإثارة كوامن المشاعر؛ لأن كلمات الدعاة تظل عرائس من الشمع حتى إذا استشهدوا في سبيلها دبت فيها الروح، وجرت فيها الدماء، وكُتبت لها الحياة، وسُطرت في صفحات الخلود.
فالمجاهد، لا يتربى في أحضان الملاهي، ولا في غمار الشهوات، ولا بين الجداول والخلجان وسط الأزهار والرياحين، ولا بين الكواعب الحسان والغيد الملاح، ولا في وسط المترفين واللاهين والخانعين والكسالى، وإنما تربيه الحوادث والشدائد، وتصوغه الكوارث والنكبات، وتعلمه الأيام والليالي، وتدربه الدروس والعبر، وتعملقه الخطوب والمعارك، والإقدام والإحجام، والكر والفر، ذلك الذي يعطيه لقب المجاهد، ويقلده شارة الكفاح، ويؤهله للفوز والنصر والفلاح.
كم خرَّجت السجون والمعتقلات رجالاً أصلب من الحديد، وأقوى من الفولاذ، وأرسخ من الجبال، وأشمخ من الشم الرواسي، وكم صهر الكفاح المرير عزائم ونفوسًا وعقولاً وسواعد، طهرت الرجس السائد، والظلم القائم، والجهالة المتسلطة، كم طردت من مستعمر، وأخرجت من دخيل، ونحَت من عميل، وشردت من عابث، وكانت موئلاً للبلاد، وملاذًا للشعوب، وأملاً للأمم، ومنارات على طريق الحضارات، وروادًا على درب التقدم والازدهار. وكم أضاع البلاد، وجلب النكبات رجال باعوا أنفسهم لشهواتهم أو لأعدائهم وشياطينهم، فكانت تفزعهم الصيحة، وترعبهم الإشارة والشائعة، وتهدَمهم وتقعدهم الطبول الجوفاء، والجلبة الخرقاء، فصاروا صورًا للجبن والانزواء والهلع في ساعات الشدة، وقد كانوا في الرخاء في قمة الانتفاش، وسلاطة اللسان، وحسن البذة والشارة والهِندام، وقد عبَر القرآن الكريم عن هذا أصدق تعبير حين قال: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) (الأحزاب: 19)، وهذا الصنف وذلك النموذج من الناس هم علة الأمم، لا ينقطع في كل جيل، شجاع وفصيح ومنتفش عند الرخاء والعَرض والمنصب، وهزيل خوَار جبان منزوٍ عند الشدة والكفاح.
أما الفرد المسلم المجاهد، والصادق المؤمن المكافح، فإنه مستمسك بالعروة الوثقى، متشبث بها عند الكبوات، متوكل على الله عند الملمات، يتخذ من الزلازل عزمًا، ومن الشدائد بشائر ونصرًا فيثبت ويطمئن، ويقوى ويستقر، ويعرف أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، وأن مع الضيق فرجًا، وأن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، فهو هو رجل الملمات الجسام في أمة المجد، وأمة الخلود، الذي يرفع الكرب، ويزيل القنوط، ويمنع السقوط، ويجدد الأمل ليفرح المؤمنون بنصر الله.. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)